د. سعيد الشهابي: ذكرى مولد النبي محمد (ص) فرصة للتعريف برسول الإنسانية
كما أن ذكرى رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نهاية شهر صفر مناسبة لاستحضار خاتمة حياته المفعمة بالإيمان والجهاد والعطاء، فإن ذكرى ميلاده الشريف في منتصف شهر ربيع الأول (مع اختلاف بين الثاني عشر والسابع عشر) محطة أخرى ذات أهمية قصوى ليس للمسلمين فحسب بل للبشرية الباحثة عن الإيمان والخير. فرسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كانت وما تزال مصدر إشعاع لمن يتوقف عندها بقلب نقي وفكر ومتحرر ورغبة جامح للوصول الى خير أبناء هذا الكوكب. وإن من المحزن ان ينبري أتباع الديانات الأخرى لمواقف سلبية تجاه الرسالة التي جاء بها النبي محمد (ص) التي خاطب بها الإنسانية جميعا ولم يحصرها بمن آمن به فحسب: ﴿قل يا أيها الناس إنما أنا رسول الله إليكم الذي له ملك السماوات والأرض﴾. لقد كانت هذه الدعوة شاملة للجميع، تهدف لتوحيد البشرية وليس تفريقها وذلك من خلال عدد من السمات: أولها: أنها اعترفت بالأديان والكتب السماوية التي سبقتها، ولم تعترف بالأنبياء فحسب، بل قدّستهم كثيرا. رسالة محمد جاءت لاستكمال ما جاء به الانبياء السابقون ابتداء بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى: ﴿قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وموسى وعيسى لا نفرق بين أحد منهم﴾.
ثانيها: أن الإسلام احتضن شرائع تلك الاديان واعتبرها مقدسة لأنها من لدن حكيم عليم. وافترض ان المؤمنين بتلك الرسالة حقا سيجدون في رسالة الإسلام استكمالا لشرائعهم التي جاء بها أنبياؤهم: ﴿لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾. فأهل الكتاب هم أقرب الناس للمسلمين على مستوى العقيدة، ولا يرى عائقا ابدا امام محاولات التقريب والتفاهم والبحث عن أرضيات مشتركة للتعاون خصوصا في عالم يزداد تنكرا للأديان كافة. ثالثها: أنه امر باحترام أتباع الأديان الإبراهيمية الأخرى، فمنع التعرض لمعتقدائتهم ومقدساتهم وكتبهم وأماكن عبادتهم، ولم يسمح لأتباعه باستهداف المعابد والكنائس لان ذلك تهديد للسلم الاجتماعي من جهة وسبب للتناحر والتنافر والتحارب، الأمر الذي لا ينسجم مع روح الإسلام الجامعة والمنفتحة على الحق، والرافضة للعصبية أيا كان شكلها.
وعلى مدار التاريخ كان هناك من النصارى واليهود من قرأ الإسلام وتعاطف معه. المشكلة ان روح التدين العميقة غائبة عن الميدان، بعد ان تحولت الاديان إلى مؤسسات عملاقة واصبح لها أتباع ومستفيدون ورموز كبار ومؤسسات عملاقة، وتلاشت عنها ظواهر التدين العميق الصادق، وأصبحت الطقوس اقوى تأثيرا من العبادة الخالصة والتفكير الديني العميق.
ذكرى ولادة الرسول الأعظم مناسبة لتطوير لغة الخطاب الإسلامي مع غير المسلمين، كما أنها مناسبة لوضع النبي في المحور الديني لدى المسلمين، وليس على الهامش. هذا يعني الطاعة المطلقة للرسول الذي لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى. ولكي يتحقق ذلك لا بد من تجاوز تعقيدات التاريخ الإسلامي التي ازداد تشوشا بعد رحيل محمد (ص)، والعودة إلى الجذور، أي إلى ما قاله الرسول وما فعله، بعيدا عن إضفاء سمة القداسة على الآخرين الذين ولغ بعضهم في الشرك: ﴿وممن حولك من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم، نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين﴾. كما يتطلب الأمر أن يعود المسلمون ألى تراث الرسول وخطبه خصوصا ما قاله في آخرها بالقرب من غدير خم. هذه الحقائق تم تغييبها عن الاجيال اللاحقة من المسلمين، فدب الخلاف بينهم وتمزقت صفوفهم. فلدى الرسول من التراث في مجال الحديث والفعل ما يكشف حقيقة رسالته ومدى اهتمامه بمستقبل الإسلام والمسلمين بعد رحيله. ولكن الذي حدث ان المسار الذي رسمه الرسول لم يحظ باهتمام مناسب، بل ساهم الصراع على السلطة بعده في حرف ذلك المسار، فتأسست الخلافات بين المسلمين حتى عصرنا الحاضر. لذلك يمكن ان تكون ذكرى ميلاده الشريف محطة على طريق استعادة إسلام محمد بن عبدالله ومعه وحدة المسلمين كما أرادها.