ما وراء البحث عن مفهوم أوسع للتطرف

 د. سعيد الشهابي

برغم التجربة البشرية مع الظواهر الاجتماعية والسياسية عبر التاريخ، ما يزال الإنسان يبحث عن معاني المصطلحات المتصلة بتلك الظواهر. ومن وجهة النظر الإسلامية فإن هناك ثوابت ومتغيرات في المجتمعات البشرية، وهناك تغير لمصاديق المصطلحات والتعريفات. فمثلا يمكن ان تتغير مصاديق الفقر، إذ قد يكون نسبيا لارتباطه بمستويات المعيشة بين الناس، ولكن معناه ثابت لا يتغير. أما الثابت والمطلق فهو ما يرتبط بالله سبحانه. وبرغم مرور قرابة نصف القرن على حدوث الاضطرابات الفكرية والسياسية منذ بدء الصحوة الإسلامية في العالم، ما يزال الغربيون يبحثون عن مصطلحات لتوصيفها، فهناك مقولات “الأسلمة” و “الأصولية”، وهناك مقولات “الإرهاب” و “التطرف”، وأغلب هذه المصطلحات يخضع لأمور عديدة: أولها الظروف التي تستخدم فيها، ثانيها: التوجهات الفكرية والسياسية لمستخدميها  أو القوى المهتمة بها، ثالثها: ذوق الجهات أو الأشخاص ، رابعها: حالات الاستقرار أو الاضطراب في المجتمعات المتصلة بها، خامسا: التأسيس لاستهداف من يُسمّون بـ “الإسلاميين”، وهكذا.

وربما من أهم المصطلحات التي تؤثر على السياسات الأمنية للدول مقولة “التطرف”، وهو توصيف للحركات والأشخاص ذوي الاهتمام بالتغيير السياسي والاجتماعي، أو الخاضعين لرقابة الجهات السياسية والأمنية في بلدانهم. هذا المصطلح كثيرا ما يطلق جزافا من منطلقات سياسية وأيديولوجية، ويتم التعاطي معه كمصطلح “الإرهاب” نظرا لغياب التوافق الدولي بشأن أغلب المصطلحات. وكثيرا ما يفرض الطرف القوي مصطلحاته وتعريفاته، وبشكل تدريجي تصبح دارجة في الفضاء السياسي. فالعالم يعيش اليوم تحت هيمنة الأقوياء الذين يمتلكون أسباب القوة خصوصا العسكرية والتكنولوجية. هذه الدول نفسها ما تزال تبحث عن معاني المصطلحات المذكورة، وكثيرا ما تخضعها للظروف نظرا لغياب الأسس الدينية والعقيدية بشأنها أو بسبب تجدد الظروف وعدم ملاءمتها للأوضاع الجديدة. هذا التذبذب  أو التأرجح في تحديد معاني المصطلحات ومصاديقها له أثره على السياسات العامة وآليات التقنين لدى الدول. وهنا يتوسع النقاش حول مقولة “التشريع” وتتضح المفارقات بين الأطياف السياسية والأيديولوجية خصوصا في المجتمعات العربية والإسلامية. فالذين يقولون بما يمكن تسميته “كونية التشريع الإلهي” يعتقدون أن الدّين طرح مفاهيم ثابتة لا تتغير لأنها مرتبطة بالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هؤلاء ينظرون بقدر من التشكيك في الدور البشري في مجال التشريع، ويرون فيه نقصا كبيرا. أما ذوو الطروحات الليبرالية فيصرّون على ضرورة تفعيل الدور البشري في التشريع المؤسس على الاحتياجات المتحددة للإنسان، ولذلك تتغير مصاديق المصطلحات، فيتم تضييقها أو توسيعها، ومنها “التطرف”.

أيا كان الأمر فهناك اضطراب ذهني لدى أغلب البشر الذي لا يستطيع الادعاء بامتلاكه الحقيقة المطلقة أو الفهم الكامل لطبيعة الأشياء. ومن أهم المصطلحات التي تنعكس على حياة البشر في  خضم الصراع الفكري والأيديولوجي في العالم، مصطلح “التطرف”. فبالإضافة لعدم وجود توافق دولي على تعريفه وتحديد أبعاده هناك توجه عام لاستغلاله وتطويعه لإرادة الحكام ورغباتهم. وفي الأسبوع الماضي أثيرت ضجة في الأوساط الحكومية البريطانية حول هذا المصطلح، وانطلقت دعوات من رئاسة الوزراء لإعادة تعريف “التطرف”. الهدف من تلك المراجعة توسيع المفهوم لتسهيل مهمة المؤسسات المخوّلة بتطبيق القانون، لاستهداف من يسمونهم “الإسلاميين”.  وفي حال اتهام شخص أو مؤسسة بالتطرف يتوقف التواصل معها من قبل الجهات الحكومية المعنية وتمنع من التواجد في الجامعات والمنابر العامة، وتخسر أي دعم مالي من السلطات والجهات المعنية بتمويل أنشطة مؤسسات المجتمع المدني. وتهدف هذه الخطوة، حسب ما نشرته وسائل الاعلام لـ “قمع التطرف الإسلامي واليميني الصاعد في بريطانيا”. وتبرّر هذه السياسة بأن بعض المؤسسات والافراد “حقق مكاسب من تعامل الجهات الرسمية معه.” وتحت غطاء تطبيق القانون ومقاضاة من يشجع العنف أو يمجّد الارهاب أو يروّج العنصرية أو يهدد الآخرين، سوف يتم التصدي للأفراد والمجموعات التي تقرر الحكومة عبر جهاتها السياسية والأمنية استهدافها.

الحكومة البريطانية تعتمد في الوقت الحاضر التعريف التالي للتطرف: “معارضة القيم البريطانية بالتصريح أو الممارسة، ومنها الديمقراطية، حكم القانون، الحرية الشخصية والاحترام المتبادل والتعايش مع المعتقدات المختلفة. ويضاف إلى ذلك الدعوة لقتل منتسبي القوات المسلحة داخل البلاد وخارجها”. هذا التعريف وضعته وزارة  الداخلية ضمن ما يسمى “استراتيجية المنع (بريفنت). وقد استخدم هذا التعريف في استراتيجية الحكومة البريطانية لمكافحة التطرف التي وضعتها في العام 2015، لمواجهة “التطرف العنيف وغير العنيف” هذه الاستراتيجية مختصة بمركز الحكم في لندن ولم تلتزم بها حكومات الأقاليم مثل اسكوتلاندا. ومن خلال استعراض الوقائع يبدو ان الحكومة المركزية في لندن غير مرتاحة لعدم التزام الحكومة المحلية في اسكوتلاندا بهذا التعريف. وتهدف مراجعة المصطلح لاستيعاب التحديات المرتبطة بتعريف التطرف وطبيعته الحقيقية والنسبية، وتعترف بعدم وجود تعريف ثابت للتطرف. والواضح ان الوضع في اسكوتلاندا يثير حفيظة الحكومة المركزية. فهي تعتقد بوجود حالات تطرف هناك ونشاطات ارهابية، وتطبيقات عديدة لاستراتيجية “بريفنت” والعنف المرتبط بالكراهية والطائفية بالإضافة لما تعتبره تطرفا إسلاميا ويمينيا.

والواضح أن هناك دوافع للحكومة البريطانية لإعادة تعريف مصطلح التطرف بهدف توسعته. وتمثل الحالة الإسلامية بعمومها أحد مخاوفها. وفي غياب التهديدات الأمنية من المجموعات الإسلامية المتطرفة أصبحت الجهات التي تطالب بتوسيع تعريف المصطلح أكثر استهدافا للحالة الإسلامية العامة. فمثلا أوقفت الحكومة تعاملها مع “المجلس الإسلامي البريطاني، ام سي بي” منذ سنوات لرفضه مسايرة السياسات البريطانية بشكل مطلق، خصوصا سياساتها في الشرق الأوسط التي تزداد اقترابا من كيان الاحتلال الإسرائيلي. ويلاحظ توسع تأثير اللوبيات اليهودية في بريطانيا ونشاط مجموعات الضغط اليهودية التي أثرت كثيرا على السياسات البريطانية. وفي الشهر الماضي أوقفت الحكومة دعمها المالي لمؤسسة معنية بحوار الأديان. والسبب؟ أن أحد أعضائها، حسن جودي، كان عضوا ناشطا في المجلس الإسلامي الأوروبي. وقد أعلنت منظمة “حوار الأديان” أنها عازمة  على وقف نشاطها بعد توقف الدعم عنها. وهكذا يتم التضحية بمنظمة تعمل على مد الجسور بين أتباع الديانات المختلفة لتجنب إزعاج مجموعات ضغط تعمل لصالح “إسرائيل”. ومن شأن هذه السياسة الضغط على الحريات العامة خصوصا حرية  التعبير. هنا يتم الاختفاء وراء مقولة “القيم البريطانية” التي يندر ان يتصدى أحد لمواجهتها أو تهديدها، فتُختزل بالسياسة البريطانية، وفي ذلك توجه لفرض نمط استبدادي واضح يُفترض أن لا تنتهجه حكومة ديمقراطية.

فلم تعد بريطانيا تخفي دعمها “إسرائيل” في حربها التي تستهدف الحالة الإسلامية العامة بعنوان استهداف منظمة حماس بشكل خاص وإعلان هدف حربها الحالية على غزة بتدمير منظمة حماس بشكل كامل. وحيث أن “إسرائيل” فشلت في تحقيق ذلك الهدف المعلن، يتم البحث عن أساليب أخرى لمحاصرة مجموعات المقاومة الإسلامية. وفي ظل التعاطف الدولي مع شعب غزة أصبح السياسيون الغربيون، مرة أخرى، يبحثون عن أساليب لمحاصرة ذلك التعاطف. لذلك يتم توسيع رقعة الحديث بشكل مبالغ عن “التهديدات التي تمثلها الاحتجاجات التي تدعم غزة، للعاصمة لندن”. فقد كانت تلك الاحتجاجات، وآخرها يوم السبت الماضي، غير مسبوقة من حيث الحجم والمشاركة، فكان لها دور في شعور السلطات البريطانية بالحرج. وثمة إجماع على أن أغلب التظاهرات التي نظمت في الشهور الأربعة الأخيرة كانت سلمية ولم تُسجل فيها حوادث عنف تذكر. وثمة خشية لدى النشطاء الليبراليين البريطانيين من تضييق مساحات الحرية والفضاء العام بدعاوى حفظ الأمن ومنع التطرف. وهناك منحى لتوسيع تعريفه ليشمل “رفض السياسات البريطانية” التي تزداد تقاربا مع السياسات والمواقف الأمريكية. وربما أثار حفيظة اللوبي الإسرائيلي وصول بعض المسلمين إلى مواقع سياسية عليا كعمدة لندن والوزير الأول في اسكوتلاندا. فإذا تم توسيع دائرة تعريف مصطلح “التطرف” أصبح بالإمكان محاصرة الأشخاص ذوي المناصب العليا بمحاولات جرّهم إلى معارك جانبية مع من تعتبرهم أجهزة الاستخبارات “متطرفين”، كما حدث مؤخرا مع صادق خان، عمدة لندن، بدعوى أنه “خاضع لتأثير الإسلاميين”. إنها أساليب لا تخدم المصالح البريطانية من قريب أو بعيد، خصوصا بعد أن أثبتت العناصر المسلمة في المناصب العليا حرصها على بلدها وحماسها لتنميته اقتصاديا واجتماعيا وعلى صعيد العلاقات بين مكوّناته.

الأمر المؤكد أن هناك ضرورة لتوافقات دولية حول المصطلحات التي أصبح لها دور في السياسات الدولية ومنها: الأسلمة والإرهاب والتطرف والإبادة. وهذا يحتاج لتعاون عملي بين أطراف عديدة تبدأ بالأمم المتحدة ودبلوماسيي الدول الاعضاء لديها، وكذلك منظمات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية والأكاديمية. وذلك مشروط بوجود أجواء هادئة وودّيّة من جهة ورغبة حقيقية بعدم تسييس المصطلحات أو توجيهها لخدمة طرف دون آخر. فعالم اليوم يحتاج لتوسيع دوائر الحريات العامة لمنع التطرف، بالإضافة لبث ثقافة التعايش بين البشر على تعدد أديانهم ومشاربهم السياسية. أما سياسات لجم الأفواه ومحاصرة حرية التعبير والانطلاق لخدمة أجندات سياسية خارج سياقات ما يجري السجال حوله فتضر بالأمن والسلم. وبدون توفر ذلك يصبح الأمر استهدافا غير مشروع لفئات ايديولوجية أو سياسية محددة، بدفع من جهات لا تتوفر على أرضية أخلاقية صلبة. هذه القوى الساعية لضمان شرعية لسياساتها التوسعية أو العدوانية تتذاكى بأساليب ملتوية بعيدا عن حدود الآداب والأخلاق والضمير. التطرف المطلق شر مرفوض لا يمكن إقراره، سواء تطرف الأفراد الهادفين للتدمير والتخريب أم المجموعات التي تحتضن أجندات مدمرة وأساليب بعيدة عن الأخلاق، أم الحكومات التي تتطرف في نهبها ثروات الشعوب أو تمارس التعذيب بحق معارضيها السياسيين، أو الكيانات القائمة على احتلال أراضي الغير أم المجموعات التي تروّج أيديولوجيات متطرفة وتتبنى أساليب دموية تقضم الأخضر واليابس في بلدانها. أما الاعتدال فهو عكس ذلك كله، وهذا ما يجب العمل من أجله على أسس أخلاقية ومحايدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى