
أزمة التعليم والبحث العلمي في العراق
السيطرة النوعية.. ووهم المعرفة
الدكتور خالد الشفي*
سألت الهوا (الهواء) أما زلت تحي
من كان مختنقا او فيك نسمة.. منها يستنشق
وسألت الهوى أما زال عنوانك.. عشق
لمن هوى … ام ما زال اسمك الحب
سألت الجامعات عن اجيال بها مرت ..
ما قصة من كانوا هنا.. وارتحلوا
سألت بلادي من العلم.. رصيده
بالهموم قالت محملة… وبالعلم بائس ومفلس
سألت البحوث التي كتبت في حوزته
فقالوا.. أيها تبغي؟.. وأيها اليه يرجع!؟
سألت الامهات هل ما زالت الاخلاق في البيوت.. عامرة تسقى بها الاجيال.. تدرب
سألت كل عالم.. معلم ومتعلم.. فقالوا
العلم صار سلعة يباع ويشترى… مبتذل
ياحادي العيس غرب.. لا مكان لنا ..
فالقوم للجهل.. قد لبسوا كفنا
وللمجد… باعوا.. وماحصدوا
ياحسرة.. في القلب كأنها جمرة
هناك (في البلدان) من لبس العلم له حلة
وحكمة.. تألقوا به…. وحازوا كل ما زرعوا
ويا حسرة على هذا الضجيج.. وكثرته
شهادات بالوزن قد جمعت.. من الجهل لا تغني.. ويوم الحساب لا تنفع.
ورغم كل ذا وذاك من ألم ..
فما زال لكل متأمل.. أمل!
وبصيص الخير ما زال بعيدا… لطالبه
يراه كل متفائل… مترقب
قبل البدء لا بد من تعريف العلم والتعليم.. الشهادة.. والبحث العلمي.. ما بعد التعلم.. وما بعد البحث العلمي! كذلك السيطرة النوعية والتي تشمل المعلم والمتعلم… بل المؤسسة التعليمية كلها.
معنى السيطرة النوعية باختصار.. هو لو تخيلنا ان التربية والتعليم مصنع ماذا يكون شكل هذا المنتج(product) الذي نسعى اليه؟ فتأمل !وهناك مثال يلخص ويوضح المقصود: لو حصلت على سفرة مجانية سياحية على طائرة مصنوعة في احدى الدول المتخلفة.. هل انت مستعد لركوبها؟ الجواب واضح !
أساس السيطرة النوعية، الاخلاص والأمانة وهي من ضروريات العلم والتعليم.. ربما تكون واضحة المعالم في البحث العلمي قد يصعب تشخيصها في المتعلم أثناء تدريبه وهنا يبرز دور السيطرة النوعية.
التعليم والتعلم هو ليس مجرد الحصول على الشهادة لتحسين الاحوال المعيشية او المركز الاجتماعي كما هو الدارج في اغلب الاحيان! إنما الشهادة تعني أن المؤسسة التعليمية التي تخرجت منها انا وانت شهدت لنا بلوغ مرتبة معينة من التعلم والمقدرة على أيصال ما تعلمناه الى الاخرين (وفاقد الشئ لا يعطيه!).. وهو باختصار بلوغ القدرة للحصول على ثقة الناس بالكفاءة وبالدرجة المرجوة. وهذا جهد عنوانه الاخلاص وطريقة المثابرة والمصابرة.. وثمرته الهداية والنجاح! والعلم معناه هنا كل صنوف المعرفة والمهارات. وقد يشترى العلم او يعرض في المكتبات ولكن التعليم عملية طويلة ترسخ المفاهيم في العقول وتقدح الهمم… وهي بلاشك ليست للبيع او الشراء!.
التعليم ليس حالة إستثنائية أو عابرة لمن اراده وسعى سعيه.. إنما هو عملية مستمرة على مدى الحياة.. أي كما قيل، من المهد الى اللحد.
ومشاكل التعليم عديدة أولها عدم القدرة على تحمل مصاريف التعليم وهو الان حق مكفول في البلدان المتقدمة والغنية لمواطنيها.
كذلك التباين في القدرة الذهنية قد يحدد فرص طالب العلم.. في الاختيار. وهناك مشاكل تحدث خلال عملية التعلم، منها تخص الطالب واخرى المعلم وتارة المؤسسة التعليمية.. ومن يقف وراءها. فالطالب مطلوب منه شحذ الهمة والمثابرة وحب الدرس… والاخلاص في طلبه.
أما المعلم فالمطلوب منه الكفاءة والصبر والرحمة بطلابه.. إهتمامه وحبه وإخلاصه لمادة التدريس.. وأن يخفظ جناحه لتلاميذه.. وهذا له الاثر البالغ في جذب اهتمام طلابه وتحفيز عقولهم على الابداع والتفكير والتطوير في المستقبل.
التعليم لا يمكن فصله عن التربية (الاخلاق) اذ بدون الاخلاق يكون العلم شر وبيلا ان لم يكن مجرد عبث معلوماتي!.
ولابد من اقتباس بعض المقولات التي تعزز هذا النهج والمنطق:
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
ووصف الباري سبحانه المعلم الاول وهو محمد (ص): ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾، ووصف الامام علي طبيعة المتعلم واستعداده للاستيعاب:
كل اناء يضيق بما فيه… الا وعاء العلم فانه يتسع!.
وكان رسول الله (ص) احسن معلم وكان عليا افضل متعلم… علمني من العلم الف باب ومن كل باب يفتح لي منه الف باب!.
اما التربية (خصوصا الاسرة) وهي الحاضنة الاولى فالحديث الشريف واضح في هذا المجال: اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس.
وقال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت… فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
علم وتعلم .. زرع وحصاد.. مطيته الاخلاق وسنامه الحكمة!
ولو راجعنا سبب نهوض الامم وسقوطها لوجدنا ان السبب اما قوة التعليم او ضعفه.. ومن هذه الامثلة الامة الاسلامية والامريكية والالمانية واليابانية والصينية…الخ شهادة من الحاضر والتاريخ على مزاعم الكسالى من بني البشر!
نرجع الى العنوان، ما هي أزمة التعليم في العراق؟
لست هنا بصدد التفاصيل الفنية أو التقنية التي تخص التعليم في مختلف اختصاصات وادواته، ولست معنيا ايضا بالتطور الهائل في أساليب نشر العلم وتوصيله الجديدة والمفيدة.. بل انا بصدد مقومات التعليم الاساسية بما يضمن استقلالية التعليم ونزاهته (كما هو الحال في استقلال القضاء.. وكل المهن) ويضمن أيضا نتائجه المرجوة في بناء الفرد والمجتمع والدولة..
عندما نقول أزمه القصد منها هو الصعوبة..ويشبهها في الطب ازمة التنفس، والتي اقتبسها الغرب من العرب واطلقوا كلمة Asthma (الربو) وهو صعوبة التنفس.. ازمة تلازم صاحبها مدى الحياة الى حين ظهور الدواء الشافي !.
ثم ناتي الى التعليم والذي بدوره لا ينفصل عن التربية اذ لا يمكن ان يكون هناك تعليم ناجح من دون تربية وسلوك صحيحين على الاعطاء والتلقي .. اخلاص وكفاءة.
ومن هنا جاء التبجيل للمعلم.. وايضاء اختيار الام في تكوين الاسرة (وهي مدرسة البيت) كما بينت اعلاه.. حيث يوضع حجر الاساس للتربية والتعليم بل حجر اساس بناء وحدات المجتمع (افراده) السليم والمعافى !!.
وقبل ان نخوض في عملية التعليم هناك اسئلة اهمها:
لماذا التعليم؟ ..وماذا يحصل لو لم يكن هناك تعليم؟
ما هو ثمن التعليم وما هو ثمن الجهل؟.. كم يكلف الدولة التعليم وكم هي تكلفة الجهل؟
الجواب للسؤال الاول..التعليم هو نقل العلم والخبرة من جيل الى اخر.. يعني ضمان المستقبل.. مستقبل الدولة والاجيال.
وجواب السؤال الثاني هو ليس فقط التخلف وانما الضياع.. التخبط والوقوع في المهالك ..وهذا ما اجابت به انجيلا ميركل (رئيسة وزراء المانيا السابقة)عندما تعرضت لنفس السؤال.
الجهل اذا هو عمود المجتمع الفاشل الذي يرتكز عليه وخيمة الدولة الفاشلة التي تستظل بها.. و لك ان تعدد مزايا المجتمع الفاشل والدولة الفاشلة… فساد بكل اشكاله وصوره البشعة.. وفي كل المفاصل.. ولا بد من الاشارة الى مدحت باشا (رحمه الله)، الوالي العثماني، الذي وضع اللبنات الاولى للتعليم الحديث في العراق بانشاءه المدارس الثانوية والتي تعد طلابها نحو طلب العلم في المراحل العليا من كليات ومعاهد ومن ثم الدراسات العليا… ومن العنوان انها الاعداديات اي تعد الطلاب الى ما بعدها من كليات ومعاهد عليا! عمل رائع يدل على فطنة وفطرة سليمة لهذا الرجل… نقلة نوعية تحسب له على مدى السنين.. صدقة جارية..!
التعليم كما قلنا هو سلسلة متكاملة تبدأ من البيت وتنتهي في أروقة البحث العلمي.. واذا وسعنا المعنى نرى ان التعلم والتفقه في امور الدنيا والدين هو ايضا عبادة.. واعبد ربك حتى ياتيك اليقين!..
ليس من طبعي التكرار ولكن من باب التأكيد ان التعليم هو الضمان الوحيد لاستقلال وسيادة الدولة.. حفظ لمكانتها وكرامة ابناءها بين الامم.
التعليم عبارة عن ثلاث مراحل اساسية:
- اخذ او اعطاء المعلومات عن طريق المحاظرات والمنشورات والكتب والدوريات…Education
- التدريب المختبري والميداني Training
- ثم التدريب او الاعداد الشخصي coaching
(One to one)
ولابد من فحص نوعي او مايسمى بالسيطرة النوعيه على كل مراحل التعليم(Control and Audit) ..والذي تقوم به مؤسسات افرادها من اصحاب الخبرة الطويله المعروفين بالنزاهة والسمعة الطيبه ..لوضع الاسس والضوابط.. ومن ثم التفتيش والتقييم على اساسها وهذه المؤسسات تسمى في الغرب Collegesوهي مؤسسات مستقلة ومنفصلة عن الكليات والمعاهد وكل المدارس.. لانها تمارس دور الاشراف والتقييم المستقل.. وتقوم هذه المؤسسات بالتعاون مع مؤسسات التعليم والتدريب المباشر الرسمية وغير الرسمية باعداد المناهج وتطويرها كي يكون الخريجين صالحين للعمل في مؤسسات الدولة ومصانعها ووفق ما يحتاجه البلد من اطباء، مهندسين، مدرسين او قضاة..الخ من المهن والاختصاصات التي تقوم عليها مؤسسات ومفاصل الدولة وحاجة الناس كي يكون الخريجون ذو فائدة محسوسة لسد الفراغ المطلوب.
التعليم اذن في كل اشكاله ومراحله لابد ان يخضع الى عملية السيطرة النوعية كما هو الحال في المعامل التي تنتج مختلف المنتوجات ولكن الناتج هنا هو الانسان المتعلم (المتدرب) والذي تدرب ايضا على الجانب السلوكي من الاداء المهني اضافة الى الجانب الفني والتقني ليكون احدى اللبنات النافعة في المجتمع والدولة وهو ما يسمى اليوم بالموارد البشرية ( Human Resources).
اذا ان النهوض بالموارد البشرية هو اهم رصيد لضمان نهوض المجتمع في الحاضر والمستقبل وهو افضل واضمن من رصيد النفط او رصيد الذهب في المصارف.
واهم النقاط في السيطرة النوعية في مفاصل التعليم هي:
- اولا الاعداد في مرحلة الدراسة الثانوية (الاعدادية).. وبعدها لابد من مقابلة قبل الدخول الى مختلف الاختصاصات في مرحلة الكليات او المعاهد العالية لتقييم الطالب واستعداده العلمي والنفسي لتجنب حالات الاحباط.. وماتؤدي اليه من خسارة في الموارد البشريه!
- تقييم خريجي الجامعات او المعاهد العالية قبيل التوظيف الرسمي في دوائر الدولة.. عن طريق المقابلة والفحص المعلوماتي والتأكد من القابلية على اداء المهنة… وهذه هي ادنى درجات السيطرة النوعية المقصودة.
كذلك لابد من الاشارة الى دور المؤسسات والنقابات المهنية في متابعة الخريجين والحفاظ على حقوقهم ومراقبة ادائهم في الوظائف الحكومية عن طريق التفتيش او نشر الضوابط المهنية للحفاظ على اداء الخدمة للمواطنين… وفي بريطانيا تسمى بـColleges and Professional Unions.
أين هي الازمة إذن؟.. وماهي أزمة التعليم في العراق؟
لا شك ان انهيار مؤسسات الدولة بعد تغيير النظام السياسي عام 2003 ومحاولة اعادة بنائه اثر بشكل مباشر على كل مفاصل الدولة ومنها التعليم.. لقد عانى التعليم (كغيره من النشاطات) بكل مراحله صعوبات كثيرة والتي تفاقمت بفعل الازمات الخطيرة التي مرت على البلاد واهمها الحصار الاقتصادي والمعنوي.. الصراع السياسي بين الأحزاب.. الصراع الطائفي، حرب داعش.. وقوع العراق تحت البند السابع.. نظام المحاصصة وضعف السلطة التنفيذية المركزية في اتخاذ القرار السياسي الجامع والملزم لكل الاطراف!.
والتعليم كغيره من نشاطات ومسؤوليات الدولة بحاجة الى تخطيط (خطة خمسية) ترصد لها ميزانية لضمان العدد الكافي من الافراد (مستعينا بمركز الاحصاء الوطني) لاخذ دورهم في المجتمع من بعد اكمال التعليم والتدريب. وهذا يتطلب تعاون بين وزارة التخطيط والمالية والوزارة المعنية بالخريجين، كأن تكون وزارة الصحة ان كانوا أطباء او المؤسسات الهندسية او الصناعية ان كانوا مهندسين.. وهكذا.. والقرار يكون مركزيا نافذا على الجميع من قبل السلطة التنفيذية العليا… لا رجعة ولا تلاعب فيه!!.
هناك ايضا مشاكل جديدة تتعلق بخصخصة التعليم وكثرة الناجحين من الاعدادية وقلة الكليات والمعاهد المستعدة لقبولهم.. تصاحبها ازمة في تعيين خريجي الكليات لكثرتهم!!. وهذه علامة واضحة على ضعف التخطيط المركزي وشبه انعدام المركزية في اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة في هذا المضمار.. كذلك ضعف التخاطب بين مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الصناعية او المستشفيات لوضع استرايجية تخدم الجميع.. لاستيعاب الخريجين!
اذن ازمة التعليم ليس في قلة المتعلمين وانما في كثرتهم وضعف القابلية على استيعابهم في الكليات اولا ومن ثم توظيفهم في مؤسسات الدولة من بعد التخرج، ولابد من العودة الى ما اشرنا اليه انفا، يلخصه السؤال التالي، ثم نأتي الى البحث العلمي… اعلى مراتب التعليم !
كيف يتم وماهي المؤهلات؟ مؤهلات الطالب والمعلم… لابد من استراتيجية واضحة من قبل الدولة على مواضيع البحث المطروحة، اصالتها.. فائدتها.. ومن ثم تطبيقاتها في مفاصل الدولة.. لابد من مجلس للبحث العلمي متكون من خبراء مشهود لهم في الباع العلمي ..
واخيرا لابد من الاشارة السريعة الى الذكاء الاصطناعي(AI).. التطور الهائل في اعلام النشاط الالكتروني.. وتوفر المعلومات المجانية في خيره وشره، وهذا ليس بحاجة الى سيطرة نوعيه فحسب وانما الى رقابة اخلاقية وقانونية حازمة ولولاها سوف يصعب التصديق بين ماهو حق.. باطل او مزيف (pseudoscience)..بين ماهو اصيل، او مسروق(intellectual property hijacked)
..وتبرز عندها مشكلة جديدة الا وهي: وهم المعرفة ومنها يفتح باب الجهل المركب على مصراعيه! وحينئذ.. يضيع الميزان..
بدأت بالشعر.. لحنت القوافي..
توضيحا لمعنى خطير.. ام للمعاني
وفصلت بالنثر… كل شارد.. ووارد
قاصيا كان… او داني
* د.خالد الشفي
استشاري الامراض المعدية (الجرثومية)لندن
ماجستير ودكتوراه في امراض المناطق الحارة جامعة لندن
زميل الكلية الملكية البريطانية للامراض
محاضر أقدم (سابقا) جامعة كاردف.. ويلز
محاضر أقدم (سابقا)جامعة امبريال.. لندن