د. سعيد الشهابي: الشهادة طريق الخلود وذروة المجد
في موسم عاشوراء يتصدر مفهوم “الشهادة” لائحة القضايا التي ارتبطت بما جرى في العاشر من المحرم من العام 61 بعد الهجرة. هذا لا يعني أنها بدأت باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بل يعني أنها اصبحت ذات أبعاد جديدة تختلف قليلا عن الأبعاد التي ارتبطت بمفهوم الشهادة في صدر الإسلام. يومها كانت الشهادة مرتبطة بحب رسول الله والذود عنه والصمود على دربه والتمهيد لانتشار دعوته وإقامة دولته. فحين استشهدت سمية بنت خياط وزوجها ياسر كانا أول شهيدين في الإسلام، وكان موقفهما تحديا قويا للتحالف القبلي الذي تصدى لدعوة الإسلام. وحين استشهد حمزة بن عبد المطلب في معركة بدر كان ذلك تعبيرا عن صمود الطلائع الأولى من المسلمين على درب الإيمان واستعدادهم للتصدي لمن يستهدف الإسلام ومحمد بن عبد الله. أما استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ومن معه في كربلاء فكان من أجل التصدي للإسلام الأموي الذي كان قد تبلور في الخمسين عاما التي أعقبت وفاة رسول الله. تلك الحقبة كانت حقبة تحول في المشروع الإلهي الذي اختتم بالإسلام. وهنا تجمعت فلول الجاهلية في شكل تحالف قبلي قاده أبناء الزعماء الكبار الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لإعلان إسلامهم في ذروة قوة الإسلام ونبيه، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، كما أكد القرآن الكريم: ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم﴾.
الشهادة الحسينية كانت وقفة تاريخية متميزة ساهمت في إضعاف وهج المشروع المناويء للإسلام المحمدي. وبعد تفكير عميق من الحسين عليه السلام بعد إصرار الحكام الأمويين على إخضاعه لحكمهم، وبالتالي تجميد مشروع رسول الله، وجد أبو عبد الله نفسه مدفوعا لأداء الدور الذي عجزت عنه الأمة. تلك الأمة التي حضر منها 120 ألفا في غدير خم للاستماع لآخر خطبة من محمد عليه افضل الصلاة والسلام، لم تثبت على موقفها الذي عاهدته عليه، وذكرهم القرآن الكريم بوضوح: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا﴾. تلك الأمة لم تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تدافع عن وصية رسول الله ولم تحافظ على تعليماته، فأصبحت لقمة سائغة للباحثين عن الحكم الذي تغيرت أسسه وأهدافه، فلم يكن من أجل حماية الدين وترسيخ قيم الإسلام من خلال آل بيت رسول الله، بل لضمان هيمنة قبيلة بني أمية على المسلمين، وبعدهم بنو العباس. أهذا هو تراث محمد؟ الحسين الموصوف بأنه وارث الأنبياء كان يرى بعين الله، فأدرك أن الإسلام المحمدي في خطر محدق وأن الانقلاب الذي قام به معاوية يجب أن لا يمر بهدوء.
لم يقدم الحسين على الشهادة إلا بعد أن استنزف كافة وسائل إيقاظ الأمة وتحريكها لكي تقوم بمسؤوليتها بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي للحكم الفاسد. ولكن نداءاتها وقعت على آذان صماء وقلوب ميتة، لان المشروع الأموي استحكم وملك زمام الأمور وسلب الأمة ثرواتها وواستخدم ذلك لدعم مشروعه والتصدي لمن يعارضه. هنا أصبحت الشهادة موقفا تاريخيا كان على الحسين القيام به، وهو يعلم أن ذلك سيكلفه حياته وحياة الثلة القليلة التي صمدت معه حتى النهاية. كان هناك المئات من المؤمنين المستعدين لنصرته، ولكن أجهزة الأمن الأموية قامت بعمليات استباقية واعتقلتهم في الحجاز والكوفة. وقف الحسين وقفته وضحى بنفسه ليسجل للتاريخ شهادة أبدية تتوسع بشكل دائم، ولا تتلاشى او تضمر يوما. صحيح أن فهم الجماهير المؤمنة لرسالة الحسين بقي محصورا بالجوانب العاطفية والروحية، ولكن الظاهرة الحسينية بقيت تؤرق الطغاة عبر التاريخ، ولذا ستولد الشهادة من جديدا وسيكون لها معاني ذات أبعاد عملية تعيد للإسلام المحمدي وجوده وحيوته وتهزم المشروع الأموي الفاسد وإسقاطاته التاريخية. لقد كتب الحسين بدمه تلك الشهادة التي لن تمحى من ذاكرة الزمن.