
الحجّ: بين الممارسة الطقسية والوعي الإيماني
الدكتور سعيد الشهابي
بدأت شوارع مكّة وطرقاتها بالاكتظاظ بوصول حجاج بيت الله الحرام لأداء الفريضة، وهذه ظاهرة تتكرر سنويّا بحلول الموسم. ولا يخلو بيت الله الحرام من المؤمنين الذين يتواردون طوال العام لإظهار الطاعة وممارسة العبادة، تارة خلال موسم الحج المحدود بـ “أيام معدودات” وأخرى لاداء مناسك العمرة تقربا إلى الله تعالى. وما أكثر الذين أعادوا صياغة حياتهم لتتضمن زيارة المشاعر المقدّسة بانتظام، خصوصا في الأوقات المنصوص عليها. ففي العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك تزداد أعداد المتوجهين ألى مكّة لأداء العمرة المندوبة في حالة الصوم، وبذلك يتضاعف أجر المسلم الصائم الذي يمارس كافة العبادات في وقت واحد. إنها ممارسات عملية تهدف لإعادة صقل شخصية المسلم بالعبادة الخالصة خصوصا تلك التي تبعده عن الحياة المعتادة المشتملة على الضوضا وربما اللهو والغفلة.
وبهذا يصبح الحج موسما متميزا على صعدان شتى. أولها تعميق مفهوم التوحيد الذي لا يشوبه شيء من الشرك الذي وصفه الله في القرآن الكريم بقوله: إن الشرك لظلم عظيم. وبرغم ما يُقال عن رفض الشرك نظريا، فكثيرا ما تحتوي حياة الإنسان على ممارسات تقترب من الشرك الحقيقي، أي إشراك غير الله في المجالات المختصة بالله وحده: ولا يُشرك في حكمه أحدا. فحين خلق الله الإنسان اعتبره خليفته على الأرض ومنعه من الانصياع لغيره. فقد اختص الله لنفسه مهمّتين بقوله تعالى: ألا له الخلق والأمر. فهو الخالق وهو الربّ ولا يحق لأحد مشاركته فيهما. وحين ينصّب البعض نفسه في موقع الربوبية فقد دخل حالة الشرك الحقيقي. ومناسك الحج تهدف لإعادة تثبيت حقيقة التوحيد عمليا، فتشتمل على ممارسات تؤكد ذلك. فالجميع متساوون أمام الخالق، على اختلاف مناصبهم وثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية. وتفرض مناسك الحج على الجميع الظهور بلباس واحد والتحرك من خلال الطواف والسعي وكافة أعمال المناسبة بنمط واحد. فالحاكم الذي يتوجه ألى بيت الله الحرام يعلم أنه سوف يساوي محكوميه أمام الحضرة الإلهية في كل شيء. والثريُّ الذي يملك المليارات لن يستطيع إظهار شيء من ثروته خلال مثوله أمام الله من خلال مناسب الحج المتعددة. فالكل يطوف حول الكعبة، ولا يحق لأحد أن يطالب بأولوية أو تفضيل أو تغيير في تلك الممارسة. وكذلك الأمر عند السعي بين الصفا والمروة، وخلال الإفاضة من عرفة أو النفرة الى منى. فلا مجال للشرك هنا، بل الامر محصور بالتوحيد الذي يجب أن يكون خالصا ليكون الحج مقبولا.
يواصل الحاج أداء مناسكه في أجواء متميزة عن حياته المعتادة. وهو ما كان يبحث عنه عندما عقد العزم على أداء الفريضة. يعلم هذا الحاج، خصوصا إذا كان ضعيف الحال، أن أداءها يفرض عليه إنفاقا عاليا خصوصا بعد ارتفاع تكاليف أداء الفريضة في الأعوام الأخيرة لتصل إلى ذروتها بحدود 10 آلاف دولار قبل بضعة أعوام، ثم تنخفض إلى النصف حاليّا. فلطالما تمنّى الكثيرون أن لا تُستخدم الزيارات الدينية كتجارة دنيوية لكسب المال بمعدلات خيالية. ولكن الواضح في زمن التكنولوجيا والبذخ أن ذلك لا يتحقق بسهولة. ويُفترض أن تؤدّى المناسك في أجواء روحانية تطغى عليها بساطة المأكل والمشرب لتستقيم مع بساطة الملبس الذي أصبح مألوفا ببياضه وبساطته وتواضع ثمنه. فهي مناسبة لمواجهة ظاهرة الإسراف والبذخ التي تروّجها القوى المادّيّة التي تستغل كل فرصة لتكديس الأرباح. بل أن بعض المهتمّين بالصحة العامة يدعون للاستفادة من فترة الحج لتحسين نمط الاستهلاك الشخصي خصوصا في جانب الأكل والشرب، وأن تهيمن القاعدة الإسلامية “لا إفراط ولا تفريط” على السلوك الحياتي للفرد بغض النظر عن مستواه المعيشي وحجم ثروته. فالوقوف أمام خالق السماوات والأرض، ورمز العظمة والكبرياء يتطلب تواضعا كبيرا من المؤمن الذي يسعى للتقرّب إليه بالعبادة، ولا يمكن أن تكون العبادة خالصة إلا إذا تحلّى القائمون بها بالبساطة والتواضع وابتعدوا عن البذخ والاستكبار. الحج يهدف لكسر كبرياء النفس وإخضاع الحاج للقيم الدينية الراقية الهادفة لوضع الإنسان على طريق النجاح من خلال العبادة ومقتضياتها الأخلاقية والسلوكية.
ثمة مضامين عميقة لفريضة الحج التي تعتبر المشروع العملي لإضعاف حالة الشرك المتعددة الأشكال في النفس الإنسانية. ومنها استيعاب المشروع الإبراهيمي الذي جاء به أنبياء الله تباعا، بدءا بسيدنا إبراهيم وانتهاء بخاتم الأنبياء، محمد بن عبد الله عليهما الصلاة والسلام. هذا المشروع تجسيد لما يريده الله من الإنسان بعد ان اختاره خليفة له على الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له. ويعتبر نبي الله إبراهيم الخليل حجر الزاوية في ما يسمى “الحج الإبراهيمي” نظرا لدوره الكبير في تأطير الحج ومناسكه. فهو الذي بنى الكعبة المشرّفة “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”، وهو الذي أسس للفريضة حيث ارتبطت به مناسك السعي بين الصفا والمروة، عندما كانت زوجته هاجر تهرول بين المكانين بحثا عن الماء لولدها إسماعيل. كما ارتبطت به شعيرة “التضحية” لإظهار معنى التوحيد الحقيقي المتمثل بالطاعة المطلقة للأوامر الإلهية من جهة والاستعداد لتنفيذها طوعا بدون الشعور بالإكراه من جهة أخرى. فلا يمكن إكمال مناسك الحج بدون أن يُستعاد تاريخه ويتضح ارتباطه بإبراهيم عليه السلام، الذي كان بداية تطبيق المشروع الإلهي الذي بعثه الله لعباده عبر رسالات الأنبياء عليهم السلام. والواضح أن هذه الخلفية التاريخية والفكرية والدينية لهذه الفريضة لا تحظى عادة بالاهتمام، خصوصا بالهرولة لما يمكن تسميته “طقسنة” العبادات، أي أداؤها حرفيا بدون التعمّق في محتواها وفلسفتها ومقاصدها. وما يُقال عن ضرورة استيعاب مقاصد الحج يصدق على بقية العبادات الهادفة لدفع الإنسان باتجاه التكامل ونبذ تراجعه الروحي والفكري والسياسي. هذا التكامل يتحقق من خلال مناسك الحج خصوصا الطواف حول الكعبة وما يمثله ذلك من اعتراف عملي بمحورية الله في الحياة، وأن كل شيء يدور مدار الأمر الإلهي.
يُقال عن الحج أيضا أنه يهدف لتحرير الإنسان وذلك بربطه بإحكام بالله سبحانه، فعندما يمارس الفريضة لا يرى حوله إلا بشرا متساوين في كل شيء، فيتعمّق شعوره بضرورة تحديد علاقتين مهمتين: مع البشر الذين هم نظراؤه في الخلق والعبادة، ومع الله الذي يخضع كافة البشر له. وبذلك تتلاشى خشية الحاج من التمرّد على الأوامر الصادرة عن البشر الآخرين الهادفة لتطويعه لإرادات بشرية لا تحظى بقداسة دينية أو ارتباط متين بالمشروع الإلهي الشامل. فما أن ببدأ الحاج بممارسة المناسك حتى تسري في نفسه مشاعر التخلص من الانقياد لغير الله سبحانه، لأن البشر متساوون أمامه، كما يتجلى في كل شعيرة من شعائر الحج. فما الذي يضطر هذا الحاج للقبول بحاكمية غير الله؟ وما دام قد جدّد العهد مع الله فقد أصبح مطالبا بالوفاء بذلك العهد ولا يجوز له الحنث به. وهكذا يبقى الله حاضرا لديه إن كانت نيته خالصة وحجّه صادقا. والحاج هو الأعرف بمدى جدّيّته في ذلك، كما قال القرآن الكريم: “بل الإنسان على نفسه بصيرة”. لقد جدّد إدراكه بأن هذه البقعة من الأرض تواجد عليها إبراهيم وإسماعيل، وأنها شهدت الثورة التصحيحية الكبرى في التاريخ البشري بالتمرّد على قيم الانقياد والاستعباد لغير الله، فكان ذلك تجسيدا عمليا لمفهوم “الحرّيّة” التي طالما تشدّق بها الفلاسفة منذ أفلاطون الذي قال: “المَلِك الحق ليس الذي يملك العبيد بل الذي يدير شؤون الأحرار”. والحجّ الإبراهيمي يصنع أولئك الأحرار الذين لا يخضعون لأحد إلا الله الذ يدير شؤونهم. هؤلاء الأحرار ينظر كل منهم لأخيه مساويا له في كل شيء من خلال إنسانيته، فلا سيد ولا مسود، بل عبادٌ لإله واحد تجسّد طاعتهم إياه أوضح مصاديق الحرّيّة.
ولكي يكون الحج الذي يمارسه المسلمون اليوم إبراهيميا يجب أن يتوفر على ما توفر عليه إبراهيم عليه السلام من طاعة مطلقة لله تعالى، وتنفيذ أوامره. وهنا كان استعداد إبراهيم للتضحية بأعز ما يملك من أكبر عناصر قوّته وصدق إيمانه. فلم يتردد في تنفيذ الأمر الإلهي الذي رآه في المنام، بذبح ابنه، إسماعيل. وفي اللحظات الأخيرة افتدى الله إسماعيل بـ “ذبح عظيم”. في هذه الصفوف التي يتساوى مَن فيها تحت راية التوحيد يجد الحاج نفسه في حركة تكاملية توفر له المعاني الراقية أولاها الحرّيّة والانعتاق من العبودية للبشر الآخرين الذين ليس من حق أيٍّ منهم ممارسة الاستعلاء او التنمّر او الاستعباد بحقه. يطوف حول البيت ويسعى بين الصفا والمروة ويفيض من عرفات، فيستحضر الآخرين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، خصوصا في فلسطين. فيجد أن حجه لن يكتمل إلا إذا استحضر معاناة الآخرين وأظهر استعدادا حقيقيا للدفاع عنهم عملا بقول الله تعالى: “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّا واجعل لنا من لدنك نصيرا”. إنها خواطر ومشاعر وقرارات تعتمل في نفس الحاج وهو يؤدي مناسك الحج، فيقرّر أن يعيد قراءة الحج في ضوء ما جاء في السيرة ومنها حديث علي بن الحسين مع الشبلي حول الحج ومعانيه. إن الحج ممارسة عبادية جامعة تمثل أمة المسلمين في إيمانها ووحدتها ووعيها وسلامها، وهذا ما يُفترض أن يستوعبه كل من توجه للديار المقدّسة لأداء فريضة الحج.