يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي
الدكتور خالد الشفي
﴿يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي﴾
﴿وما اتيتم من العلم الا قليلا﴾.
تصريح.. تقرير وتوكيد (statement) من الباري عز وجل ان ماهية الروح من اختصاصه استأثر بها لنفسه.. جل شأنه… مقتضى حكمته في الموت.. وتأكيدا منه على جبروته.. فهو القاهر فوق عباده.. سبحانه.
وقال رسوله الامین (ص) “الارواح جنود مجنده ما تعارف منها أتلف وما تناكر منها اختلف!”
وفي هذه الاية المباركة بين الله لبني اسرائيل انهم لن يصلوا الى مطلق علمه وملكوته.. ذلك بما عرفوا به من لجاجة في الطلب وتمردا على الخالق والمماطلة في الطاعة.. بل غرور في طلب العلم من اجل البقاء وليس للاصلاح والصلاح.. بل طلب العلو في الحياة الدنيا.
وبين ذلك في مواضع عدة ان الروح من اختصاصه عندما بين هذا الامر تارة لخليله إبراهيم (ع).. ربي أرني كيف تحيي الموتى؟.. واخرى عندما افتضح القاتل من بني اسرائيل في سورة البقرة.. من بعد مماطلة طويلة في اختيار لون البقرة ومن ثم ذبحها.. وسميت السورة بالبقرة ليست تعظيما للبقرة وانما تبيانا لقدرة الخالق واحاطته بكل شئ.. وضعف حيلة الانسان.. بل دليلا على يوم الشهادة (القيامة).. مهما كان الانسان بارعا في اخفاء جريمته.. او القى معاذيره. سوف يأتي فردا يوم الحساب.. بعد قضاء وقته المحدد في هذه الدنيا!
قال تعالى: ﴿اني خالق بشرا من طين، فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾!! انها الروح التي جعلت من الطين انسانا سويا.. يستحق سجود الملائكة.. انها سر الحياة !!
وبين سبحانه بعضا من سر الحياة لنبيه الكريم عيسى (ع) وكيف يبدء الخلق ﴿واذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيرا باذني واذ تخرج الموتى باذني..﴾. وكانت كنية عيسى (ع) هي روح الله.. فتأمل !!
كذلك في قصة نبي الله عزير(ع): ﴿او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انى يحيي هذه الله بعد موتها.. فاماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال يوما او بعض يوم قال بل لبثت مائة عام.﴾
اذا الروح سر الحياة وسر الممات انها سر الوجود وسر المعاد… انها موجودة في كل مراحل تقلب الانسان (النفس الإنسانية) من يوم خلقه الى يوم بعثه.. تارة في جسده واخرى منفصلة.
لم يخاطب الباري عز وجل الروح ولكنه خاطب الانسان.. خاطب ‘نفسه’ لانها اهل للتكليف! ﴿ونفس وماسواها فالهمها فجورها وتقواها…﴾. ﴿يا ايتها النفس المطمئة ارجعي الى ربك راضية مرضيه..﴾.
وتارة خاطب الانسان لانه بصورته الكاملة (وهو نفسه..). ﴿يا أيها الانسان ماغرك بربك الكريم الذي سواك فعدلك..في اي صورة ماشاء ركبك!!﴾
النفس (هي الانسان المكلف) هي حصيلة اجتماع الروح مع الجسد ليكون الناتج صالحا للعيش في الحياة للدنيا.. كما هو الحال في تكون الماء من غازين مختلفين.. ليكون الماء بعدئذ اساسا لكل شئ حي.. ولكل خصائصه وميزاته.. فتامل !
ولا سبيل للبشر من معرفة ماهية الروح رغم الحاح بني اسرائيل المتكرر لانهم يفرون من يوم الحساب ويحبون البقاء الابدي. ﴿ذلك بما قدمت ايديهم..﴾ وبما عرفوا واتقنوا وتمكنوا من فنون الحياة …
﴿قل يا أيها الذين هادوا ان زعمتم انكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين.. ولايتمنونه ابدا بما قدمت ايديهم﴾.!
لذا اختص البارى هذا الامر لنفسه وجعله درس وعبرة لهم وللشيطان الذي اتبعوه من قبلهم (تطابق في السلوك والاجتهاد في المعرفة).. بل تطابق مع كل من فضل العلم والمعرفة على الطاعة واستبدلها بالتكبر والعصيان والتمرد.. وذلك هوالخسران المبين .
ان فهم دور الروح في الحياة والممات… هو من دعائم مدرسة العمل الصالح وبه يمتد عمر الانسان الى ما شاء الله بعد الموت.. يقابله فهم اخر وهو مدرسة تطويل العمر في الدنيا من غير اكتراث للعمل الصالح ومن هنا جاءت الدراسات العلمية في البحث عن سبب الكهولة والحد منها ومازلت الملايين تصرف، عبثا، للحد من الكهولة املا في البقاء ! to stop the Aging process وقد شغلت الكثيرين ممن لايحبون لقاء الله والبقاء بجواره.
هناك سؤال مهم: ما دور الروح في الجسد وما حقها على الانسان (النفس البشريه)؟؟
الروح عند دخولها في الجسد تبدئ الحياة وعندما تخرج تنهي الحياة الدنيا.. استعدادا لعودة ثانية وحياة اخرى. وأسباب الموت كثيرة ففي حالة الموت الجسد غير صالح لبقاء الروح فيه.. لمرض او تلف في الاعضاء الحيوية او ربما بسبب القتل …
وكما للانسان روح فان للمجتمع وللامم روح ايضا وحيث ان الروح لا تموت ولكنها قد تضعف او ‘تمرض’ فان مرضت الارواح فالدواء والشفاء بالتضرع والصلاة والدعاء… اي تعزيز الصلة بمن وهبها وهو الله سبحانه. وهذا ما جأت به رسالات الانبياء.. بل ان مهمة الانبياء هو تقوية الروح و’احياءها’ اي احياء القيم العليا.. الصلة بين العبد وربه.. فمن كانت روحه عالية كانت نفسه واخلاقه سامية.. مليئة بالامل والحب والتفاؤل.. ومن كانت روحه ضعيفة.. خاوية كانت نفسه خاملة.. متشائمة.. قد يأست من رحمة الله.. واصبحت مطية للبخل والشحة والانانية والحسد.. (امراض الروح). ولا ننسى ما عبر به (مجازا) الادباء والشعراء والعشاق عن الروح لانهم يحسون بها تسري فيهم ويحسون بالارواح المحيطة بهم.. من غير بصر سمع او لمس انها الروح.. لاحد لها ولا ابعاد فيها عديمة اللون والطعم والرائحة !! وعبر عن ذلك شكسبير عندما قال انظر الى عينيي فانها نافدة لروحي.. فالنظرات تدل على الروح وماتكنه خلفها !.وفي العشق قالوا ان روحي امتزجت بروح المحبوب تخاطبه من غير لسان ولكنها تحكي له واقع الحال.. وقالوا ايضا انها لغة للجسد من غير لسان(body language) او انها بدت واضحة في خلجات النفس… بل انها تملي على النفس لتحرك المشاعر ومن بعدها يكون القلب هو المحرك لاعضاء الجسد (القلب هنا ليس فقط مضخة للدم وانما مستودع المشاعر حتى يترجمها السلوك!)..علاقة معقدة لكنها متجانسة.. وكل له دوره. فالروح لها بعد ومساحة اكبر من ابعاد الجسد.. ولكننا لانعرفه.. لهذا قول النبي، اعلاه، الارواح جند مجندة….
وهناك ايضا اسئلة كثيرة عن ارواح الكائنات…. هل ان الجماد له روح كما هي للحيوان والنبات؟ الجواب نعم حيث خاطب الله الارض والسماء والجبال… وكلها اذنت لجلاله وسلطانه.. وقال في كتابه العزيز: ﴿كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾!! اذن انها حية ولابد لها من روح!
وقال الرومي(شاعر صوفي) وكأنه يعبر عن احساس ‘الجماد’ ومشاعره:
مالي أرى الشمع يبكي في مواقده من حرقة النار ام من فرقة العسل! تعبير جميل وعميق عن الإحساس الصافي بما يدور حوله.
الروح اذا هي سر الوجود.. سر وجود الموجودات !! ﴿وما اتيتم من العلم الا قليلا﴾.
اذن ايها العبد الصالح حدثني: أين هي روحك هل هي في عقلك ام في قدميك ام هي في قلبك لابد انها كذلك فخير الامور الوسط؟!! وكيف قويتها وهل ضعفت.. أيهما تهتم به الجسد وحاجاته، أم الروح وما تتوق اليه؟ وهل عرفت ان لروحك ابعاد كما لجسدك (طول وعرض)؟ ما لونها؟ ما وزنها؟
اننا ولا شك نشعر بها ولا سبيل الى معرفة اكثر من ذلك .
اتخذ الناس ثلاث طرق (انماط سلوكية) للحياة:
– حياة الجسد وهي الحياة البهيمية.
– حياة الروح.. الصوفية والعزلة والتخلص من المسؤولية.. العيش بالمعاني والوجدان..
– وهناك من رفض للحياة وهو الانتحار والتخلص من تبعاتها.. هزيمة منكر.ة
لكن المطلوب هو تحمل مسؤولية الحياة ونعيشها كما هي، نحس بالاشياء، بالحواس الخمس، ونحس بها ايضا بارواحنا (الحاسة السادسة) وهي البعد الروحي .فمن تسامت روحه تسامت اخلاقه وزهدت في الدنيا رغبته وعلت همته وكان طلب العلا اليه اقرب وعاش بكل ابعاد انسانيته.. ليلقى ربه راضيا عنه ومرضيا..
اذا كيف نقوي الروح او كما يقولون نرتفع بالمعنويات بل كيف نكون احياء بحق ونتجرد عن حالة (الموت المعنوي) وان كانت الروح ما زالت تسري فينا؟.. الجواب الايمان والتسليم بالعقيدة الصالحة اذ لا بد من عقيدة صالحة فهي غذاء الروح. والسر هو الاخلاص في الاعتقاد حتى يتحقق حق اليقين (وليس مجرد ملأ الفراغ بالتوافه) حتى يملك الانسان حينئذ بزمام نفسه.. مالكا ارادته.. قادرا على اداء مهمة الخلافة.
طوبى لمن عرف حق روحه على جسده ..وامتطى جواد روحه وانطلق بها الى العلاء فامتدت بصيرته.. ورأى برهان ربه وآلاءه.. ليكون في مصاف الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا.. هؤلاء هم من عرفوا طريق الاباء والشهادة هؤلاء هم من كانت بيعتهم لله ورسله اسهل وادوم.. ربحت تجارتهم.. وفازوا فوزا عظيما هم الاحياء حقا ﴿احياء ولكن لاتشعرون﴾. لذا وصف القران الكريم الاخرة بانها هي الحياة (الحيوان) والذي قصر طموحه فيها فهو كالميت او كالمغشي عليه من الموت ..وهنا لا بد من وقفة مع الرصافي في وصفه للاموات:
وما يرتجى من حياة امرئ كماء على سبخة راكد
ليس له في غضون الحياة سوى النفس الصاعد النازل
يعض على الجهل اجفانه ويرضى من العيش بالكاسد
فذاك هو الميت في قومه وان كان في المجلس الحاشد
كذلك الامم كلما تسامت ارواح افرادها كلما كبرت همتها واصبحت في المقدمة… يشار اليها بالبنان.. وكلما ضعفت روحها (ارواح ابناءها) كانت الى الموت اقرب.. وتداعت عليها الامم كتداعي الاكلة على القصعة رغم كثرة الاجساد ولكنها امة من اجساد هامدة.. لا حياة فيها!
ومن هنا يسهل فهم قول الشاعر:
لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لاحياة لمن تنادي
اذا لابد من شحن الروح باستمرار.. لانها بطارية الحياة والا فهو السكون الذي يسبق فراق الروح ….
﴿يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾!! انها النفس التي تم شحن بطارية ‘الروح’ فيها لتكون في حالة توقد دائم وتوثب مستمر.. لحياة ابقى وجنات العلى.. ورضوان من الله اكبر.! صدق الله وعده.