النداء الأخير عشية انتصار الدم

د. سعيد الشهابي

أنّى حدّقت ببصرك سترى الحسين أمامك: ستراه في صور مختلفة يجمعها خيط واحد، رأس معلّق على قناة طويلة، يقطر دمًا لم يجف يوما منذ أن قطع عن الجسد، ولسان يختلج بذكر الله ويتلو بعض آياته: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا. إنها صور رهيبة لمشهد واحد، رسمت معالمه في اليوم الذي نجّى الله فيه نوحا من الطوفان، وصامه موسى  عليه السلام شكرا لله على نجاة نوح، اليوم الذي وقعت فيه غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة للهجرة. إنه اليوم الذي تحدّث عنه رسول الله قبل وقوعه، واليوم الذي فاضت فيه قارورة  السيدة أم سلمة بدم عبيط>

فاسمح لبصرك أن يستمر في تحديقه عبر قرون التاريخ التي تفصلنا عن المؤامرة الفاشلة للقضاء على محمّد واستئصال ذرّيّته. لترى بعضا من نتائج تلك الملحمة المقدّسة التي برز فيها الإسلام كله إلى الشرك كله، والتي استمرت تجلّياتها في صور شتى، مؤكدة مقولات تلك الملحمة التي أعلنها بطلها الخالد:

إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقّا حقّا

اني لا أرى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمين الا برما

من لحق بنا استشهد، ومن تخلّف عنا لم يبلغ الفتح

من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله

هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون

أما من ناصر ينصرنا، أما من مغيث يغيثنا

إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم

لن يخطيء بصرك إذا كان ثاقبا أن يرى تجلّيات تلك النهضة في الثورات التي أعقبتها وحرمت الطغاة من أن يهنأوا بالحكم الذي سلبوه من الأمة. سترى إمعانهم في التنكيل بمعارضيهم والمجازر التي ارتكبوها بحق السائرين على خطى الثورة الحسينية خصوصا من العلويين. ستقرأ عن تاريخ السجون والتعذيب والعقاب الجماعي، وستدخل الدهاليز التي اختضبت بدماء الحسينيين في سجن واسط الذي بناه الحجاج، وسجن الكوفة، وسجن البصرة وسجن قرقيسياء وجميعها في العراق. وستعرف عن  سجون الحجاز ومنها سجن المدينة، وسجن عسفان وسجن مكة وسجن دوار والعقيق باليمامه، وسجن تبالة في تهامة. واستمر التنكيل في عهد العباسيين الذين استخدموا سجون العهد الأموي، في الشام والحجاز والعراق وبنوا سجون بغداد ايضا. واستمر التنكيل بالثائرين عبر العصور حتى اليوم، حتى ازدادت السجون وبنيت فيها الطوامير وتم تجهيزها بأحدث وسائل التعذيب. ما يزال العلماء والصالحون يقتادون إلى تلك السجون وتجلد ظهورهم بالسياط وتمتهن إنسانيتهم ويعذبون بلا رحمة. وما أكثر الحسينيين الذين علّقوا على المشانق أو قطعت رقابهم أو هجّروا من أرضهم.

ستقرأ في صحف تلك العهود السوداء ما بلغه حال الأمة التي خرج الحسين لإصلاحها. سترى أن حكام بني أمية وبني العبّاس كانوا يقطعون رأس الرجل ويطوفون به من بلد إلى بلد أو يصلبون الجثة حيث تزدحم الأقدام — كانوا يفعلون ذلك مع معارضيهم خصوصا العلويين، فكان العامل الأموي يقتل الخارج على الدولة ويبعث برأسه إلى الخليفة في الشام ليطاف به في الأسواق. وأول رأس حمل من بلد إلى بلد رأس عمر بن الحمق الخزاعي، وأول رأس طيف به في الأسواق رأس محمد بن أبي بكر، وأول رأس حمل إلى الخلفاء رأسا هانئ بن عروة ومسلم ابن عقيل في الكوفة، ثم رأس الحسين بن علي، أرسله ابن زياد من الكوفة إلى يزيد بن معاوية في الشام. وهكذا فعل الحجاج برأس عبد الله بن الزبير ورؤوس أصحابه، فإنه أرسلها من مكة إلى عبد الملك بن مروان في الشام، وكذلك فعل عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، فقد سيُره من الكوفة إلى الشام فنصب فيها.

 وهكذا صدقت نبوءة الحسين عليه السلام: أما انكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي

وصار قطع الرؤوس على هذه الصورة سنّة في عصر بني أمية ومن جاء بعدهم من بني العباس، وصار للرؤوس في دار الخلافة خزانة يحفظونها فيها: كل رأس في مكان خاص،  وجرت العادة أيضًا بصلب الجثث أو الرؤوس، ويطوفون بها على رمح، وكان بنو أمية إذا قتلوا أحدا من العلويين صلبوه، بل أنهم رضّوا جسد الحسين عليه السلام، وصلبوا زيد بن علي بعد أن استخرجوا جثته من وسط النهر، وصلبوا عبد الله بن الزبير حتى قالت أسماء بنت أبي بكر للحجّاج لمّا قتل ولدها عبدالله بن الزبير وتركه مصلوبا فترة طويلة مقولتها الشهيرة (أما آن لهذا الفارس ان يترجل). ثم قالت: “رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك”

من غبار كربلاء انتشرت العتمة على هذه الأمة قرونا. فهل كربلاء إلا نتيجة حتمية لما تضمنته الآية الشريفة: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم”. فالأمة تبقى صامدة وصلبة طالما التزمت بميثاقها مع الله، وحين تخل به فلا تلومن إلا نفسها. والأمة التي أشاحت بوجهها عن الحسين يوم عاشوراء تتعرض اليوم لأبشع أصناف التنكيل والتهميش والإذلال. وها هي تدفع ثمن ذلك بالعيش في ظل الديكتاتورية والاستبداد والاحتلال، وإلا السجن والتنكيل والتعذيب، أو الاستضعاف من قبل محتلي أرضها وغاصبي حقوقها. فهذه غزّة تدفع ثمن تقهقر الأمة وابتعادها عن نهج رسول الله وصمتها على ما ارتكبه الأمويون بحق آل رسول الله. العزّة التي أراد الحسين توفيرها لأمة جدّه من خلال برنامجه الإصلاحي استبدلت بالإذلال والإهانة والاستضعاف، فأصبحت الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس تعيش الذل والخنوع، كما أنذرها الحسين ع.

فهل إلى خروج من هذا الواقع الأليم من سبيل؟  لن يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح به أوله. لقد أدرك الحسين هذه الحقيقة، واستوعب ضرورة التضحية لوقف تداعي الأمّة، فكان دمُه القاني مدادًا لوثيقته مع الله، وآلامه التي لا يحتملها البشر تعبيدا للطريق الإيماني المفضي للحرّيّة. فمن شيخوخة حبيب ووعي المسيحي وهب، ووفاء جون وإيمان الأكبر وفتوّة العباس وقيادة الحسين، تشكّلت المسيرة واكتمل مشروع التأسيس لتشيّع علوي، يختلط فيه الإيمان بالدم وتتحول فيه الدّمعة إلى طوفان يفتك بالظلم والاستبداد، ويتكامل فيه بكاء الرضيع مع تلاوة معلّم القرآن في الكوفة (برير بن خضير الهمداني)، ويلتحم فيه صلب المسيح مع بقايا الأجساد المرضوضة، وتتوسع فيه دائرة الأنصار من خمسين إلى تيار قائد يزحف بجماهيره نحو قصور الطغاة لاقتلاعهم. عندها ينظر الرأس المرفوع على شاهقة القنا ليبارك للعالم نضج ثمار النهضة، ليصبح الحسين أيقونة الحرّيّة وعنوان النصر ونور العالم. لا تبكوه إلا بشرط: أن تتحول الدمعة إلى طوفان هادر يقتلع الظلم ويروي مشروع العدل الحرّيّة، وإيّاكم والدموع الميّتة، فإنّها ليست حسينية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى