تأملات في التوبة والتوابين في القرآن الكريم

برنامج يوم الخميس، 3 اكتوبر 2024
السيد علي الميّالي

مقدمة سماحة الشيخ حسن التريكي
(انما التوبة للذين يعملون بجهالة)
في هذا الشهر ذكرى ثورة التوابين التي انطلقت بسبب وخز الضمير لدى مجموعة تخلفت عن نصرة الامام الحسين عليه السلام لاسباب، بينها ان بعضهم كان مسجونا، وبعضهم لأسباب اخرى.
ونظرا للشعور بالذنب انطلقت ثورة التوابين، وطلبنا من سماحة السيد علي الميّالي ان يلقي الضوء على موضوع التوبة في القرآن الكريم، ثم يتطرق لثورة التوابين واسبابها ونتائجها.
ان ما تمر به الأمة الإسلامية هذه الأيام خطير، وندعو الله ان يؤيد عباده المؤمنين وان يرحم الشهداء.
ونحن مؤمنون بقضاء الله وقدره، مسلّمون لأمره كما قال علي بن الحسين (الاكبر) عليه السلام لابيه وهم في الطريق الى كربلاء: لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.
المؤمن المطمئن والواثق انه على الحق لا يبالي بما يحدث له من حياة او موت.

سماحة السيد علي الميّالي:
(يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين ايديهم وبإيمانهم، يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير).
قضية التوبة والتوابين، تتصل بسيد الشهداء بشكل مباشر.
الامام الحسين عليه السلام استشهد في 61 هجرية، وحدثت ثورة التوابين في 65 هجرية، فهي منفصلة عن ثورة الحسين.
يقدر عدد المشاركين فيها 5000 شخص. راجعوا انفسهم فوجدوا ان عليهم ان يطالبوا بدم الامام الحسين عليه السلام. كانت ثورتهم انتحارية.
بعد ان قتلوا الامام الحسين عليه السلام استشرت شرور الأمويين، فكانوا يتابعون اية ثغرة وينقضّون عليها.
اطلق الامام الحسين عليه السلام شعارا قبل ثورته واستشهاده، في تلك الوصية التي قال فيها: انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي. لم يقل خرجت لبناء امة جديدة او الدعوة الى دين جديد او بناء كيان آخر، فكأن هناك شيئا مهما قد هدم في كيان الامة التي بناها النبي بجهده وجهاده ومعه خيرة المسلمين الذين استجابوا لامره وامر الله وانساقوا معه باخلاص حتى انتصر وأنشأ امة. أسماها الله “خير أمة أخرجت للناس”. انتزعها من الجاهلية بما فيها من شرك وتخلف.
كنتم خير أمة أخرجت للناس. لم يقل الله: أخرجت لنفسها، لتبني القصور والمنتزهات والثروات بل جعل الله لها هدفا اسمى. انفتحت على عالم آخر من المثل والقيم والمعاني الجديدة فصارت تعيش لغيرها وليس لنفسها فحسب.
انتزع النبي محمد (ص)، أي أنه اخترق الجبال الصخرية أو دخل في بداية المحيط لينتهي الى آخره بمجموعة من الجواهر لتبقى ثمرة من ثمرات جهوده. حقق هذا الانجاز العظيم للعالم والبشرية.
هذه الأمة لم يحدّثنا الله عن مواصفاتها وألوانها وأشكالها، بل عن معانيها وعما تمتلك من مخزون فكري وروحي هائل.
كان النبي (ص) ذات يوم جالسا وحوله مجموعة يمتلك افرادها الإيمان.
كان المنافقون يسعون للتفريق بين النبي (ص) وتلك الثلة، فبعثوا له جماعة وقالوا له: هؤلاء أسياد القوم من الانصار واهل المدينة ومن علية القوم، يرغبون في الجلوس معك، ولكن يمنعهم هؤلاء الذين يحيطون بك، فقل لهم يتنحون عنك لكي يستطيع اولئك المجيء ويمكن ان تتغير الامور. قبل ان يجيبهم النبي نزل عليه التوجيه الالهي: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). جمع النبي (ص) جماعته وقال: الحمد الله الذي وفقني للوقوف معكم. هؤلاء قال فيهم القرآن: (يا ايها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم).
يقول الله أن هذه الامة لن تموت، فلماذا لم تمت هذه الأمة
﴿ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم﴾. وصف الله هذه الامة أن حياة الامة مستمرة، من يرتد عن دينه، لا يحكم الله عليه بالقتل او الموت، لان هناك عوضا عنهم. سوف تولد امة من الناس بدلا عنهم. رأينا ان ابراهيم كان أمة قانتا لله، حنيفا. في كل زمن هناك شخص يمثل أمة او أشخاص. حين تنظر الى تطلعه وصبره وفكره والى ما يصنع في هذه الحياة تجد منه ما تصنع الامة بكاملها. الله يقول انه اذا مات طرف من هذه الامة فان هناك حياة تدب فيها. (سوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين). لديهم تواضع وحب واندكاك مع المؤمنين، (يجاهدون في سبيل الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم). مهما كان الاعلام الخبيث، لان الله ثبت في قلوبهم.
هذه النخبة ما الذي جعلها على هذا المستوى من الاستحقاق بحيث ان الله يمتدحها؟ هذه الامة صناعة إلهية، قوتها ذاتية، القرآن الكريم. نؤمن بان السماوات والارضين في حركة. المؤمن الجالس في بيته على تواصل مع هذه الحركة الكونية العظيمة، يأخذ منها، يعيش عليها الحياة الروحية والمعنوية المرتبطة بملكوت الله: (ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب).
هذه الامة التي صنعها رسول الله (ص)، الامة الحقيقية التي قالت: (إياك نعبد وإياك نستعين) ولم تشرك بالله طرفة عين، ولم تفضل الدرهم والدينار، بل اخلصت دينها لله، فمن اين تستمد قوتها؟ انها تستمدها من الله، مما يحيط بها من الكون، والمؤمنون جزء من هذا الكون، يعطونه وياخذون منه: يعطونه التفكير. هذه الامة قوتها ذاتية، فهي ذاتية الحركة لا يمكن ان تضمحل او تموت. لذلك لم يحكم الله عليها بالموت والفناء كما حكم على امم من قبلها بالفناء، الامم التي تخلت عن انبيائها واصبحت حجر عثرة بين الناس وبين الله، أبادهم الله، اما هذه الامة فقد ارتدت على ادبارها، ولكن بقي منها آخرون مثل علي بن ابي طالب واصحابه ثبتوا على عهدهم ولم يرتدوا. (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم…). لن يضر الله من ينقلب على عقبيه. انقلب البعض على ادبارهم، ولكن الله جعل في هذا الدين قوة وحركة فيتحرك المؤمنون لمواصلة الطريق، لديهم قوة ذاتية.
نسمع من العلماء أن يقتل العظيم او يستشهد الكبير، لان الكبير منتصر لانه أدى ما عليه من التكليف والواجب، انه انتصار عظيم لا يمكن ان يهزم المؤمن الذي يؤمن بالله، قد تهزم نفسه من الداخل فيهزم. هذا هو الانهزام والانتكاسة في حياة المؤمن ان يهزم من داخله، اما اذا ثبت على دينه ومبادئه وشرفه وعهده مع الله فهو منتصر. الانتصار ليس قتل الاطفال والابرياء، بل هو قمة الهزيمة.
الاخلاقية الاسلامية في الجهاد: “لا تتبعوا مدبرا، ولا تقتلوا شيخا او أمراة”. أما إذا أسرته فيجب ان يحترم ويمنح حقوقا. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد). هناك سنّة التدافع بين الناس.
يجب على المؤمنين ان يصمدوا ويصبروا ويحافظوا على مبادئهم مع الالتزام بالاخلاق التي شرعها الله. وان لم يفعلوا ذلك فان لدى الناس قوما آخرين: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه). الله اعطاهم هذه الصفة بما نصروا الله: (ولينصرن الله من ينصره). فاذا نصرته ينصرني، وان يؤيدني، اذا جاهدت في سبيله ووقفت معه. هذه الحياة المنتزعة من دين الله، لان الله ضمن هذه الحركة الكونية ياخذ منها: (ويتفكرون في خلق السماوات والارض).
مقولة سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام: “انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي”. هذه الامة قادرة على ان تعود، ويؤكد الامام ان لديها قدرة روحية وفكرية لكي تعود.
حين نهض الامام الحسين عليه السلام، خرج من مكة الى العراق حتى وصل الى كربلاء، وكان معه في البداية المئات، وكان يخبرهم بين الحين والآخر انه سائر نحو الله وقد يستشهد. جاؤوا معه وهم يعتقدون ان الحسين سيدخل حربا وسيغنم غنائم. يعلمون ان يزيد بن معاوية لا يصلح ان يبقى في منصبه. الامام الحسين عليه السلام يعلم بواقع هؤلاء، ويعلم أنه لن يصمد معه سوى السبعين الذين معه. كانت الخلاصة لما بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل. وهنا تخلف الكثيرون عنه.
جاء الى زهير بن القين وكان على طريق غير الحسين، فتحدث معه وعرّفه الحق من الباطل وكذلك الحر بن يزيد الرياحي. كان الحسين عليه السلام عارفا اين هو ذاهب.
لقي الامام الحسين عليه السلام الفرزدق في الطريق فسأله الناس: ما اخبار الناس؟ قال الفرزدق: الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك. كان هذا الواقع المتهريء والخاوي والمنتهي من الناحية المعنوية والنفسية.
وكذلك لقيه الحر بن يزيد الجحفي، فقال له: لماذا لا تنصرنا؟ فقال: خرجت من الكوفة لكي لا اسمع واعيتك. وما زلت خائفا على نفسي ولا اريد ان اقتل، فهذا فرسي تحت خدمتك، فقال الحسين عليه السلام: اذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك. بقي الحسين عليه السلام في مكة ثلاثة شهور ثم رآه الحسين متوجها الى العراق.
سقط الحسين عليه السلام شهيدا في كربلاء، وكان ذلك صدمة كبيرة. لا يكتفي بان يقتل بل يمثل به ويقتل اطفاله وعياله. الصدمة يجب ان تكون قوية.
كان الامام الحسين عليه السلام مستعدا ان يعطي أقصى ما يمكن. حمل عبد الله الرضيع حتى قتل. الامام الحسين عليه السلام لم يبخل بشيء، بل قدّم كل شيء حتى يصل الى هذه اليقظة.
لا يمكن ان تأتي رسالة جديدة او نبي جديد ولا قرآن جديد. بل كان قدر الامة بهذا الدين والقرآن والائمة وهؤلاء المعصومين.
الآن بوادر الوعي والتراجع اصبحت واضحة. لا نريد ان يورثنا الله الارض بالسرعة التي نريدها.
بعد شهادة الحسين عليه السلام بدأت هذه اليقظة والعودة.
كانت اول يقظة ثورة اهل المدينة الذين ثاروا على يزيد بقيادة عبد الله بن حنظلة الغسيل. رأوا يزيد شاربا للخمر ويزني بالمحارم، فدعا اهل المدينة للثورة، وانطلقت بعد ذلك ثورات مثل ثورة عبد الله بن الزبير، ثم ثورة التوابين. اجتمع هؤلاء بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة الفزاري ورفاعة بن شداد وقرورا مواجهة بني امية، فقتلوا جميعا. كان ذلك قمة الوعي. فالامة لم تمت ولن تموت.
ثم كانت ثورة المختار وزيد ويحيي، واستمرت ضد بني أمية وبني العباس.
من اجمل مصاديق التوبة توبة هؤلاء التوابين الذين تابوا الى الله توبة نصوحا. التوبة لطف من الله، وبإمكان الله ان يغلق الباب على الناس ولا يسمح لهم بالتوبة. لكن الله كريم ولطيف بعباده، وقد استعمل الله مع التوبة اسلوبا واقعيا. أثناء اوقات ضعفه يمكن ان يرتكب الانسان المعصية، ولكنه سرعان ما يعود.
خط ابو عبدالله خطا للتوابين والاحرار. كان من معالم التوبة يوم كربلاء قضية الحر بن يزيد الرياحي. موقفه عندما كان مرتبكا قيل لله: لو قيل لنا من اشجع العرب ما عدوتك. قال: اني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا اتخذ عن الجنة بدلا، ثم ذهب الى الحسين وقال له: انا الذي جعجعت بك في الطريق. انا تائب فهل ترى لي من توبة؟ قال الحسين ع: نعم، ان تبت تاب الله عليك.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى