سجال الحرب والسلام في العالم المعاصر

ندوة مؤسسة الابرار الاسلامية بمناسبة ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية

المتحدث: الاعلامي والمفكر الدكتور يحيى حرب

التاريخ: 8 مايو 2025

الموضوع شائك وواسع.. وهو يشمل ابعادا انسانية اخلاقية سياسية امنية مادية وروحية شخصية ووطنية.. وبالتالي دينية باعتبار الدين وعاء لكل ذلك.. اضافة الى شموله الميادين الدنيوية والاخروية.. العقلية والايمانية.. المحسوس منها وما هو في علم الغيب..
لذا فقد رأينا ان نتناول الموضوع في حدود الممكن والمتاح من ثلاث زوايا:
تعريف الحرب واسبابها..
الموقف الشرعي منها.
والحروب في الواقع الراهن.
اولا: من الملاحظة البسيطة للتاريخ اثرا ورواية يمكن استخلاص ان الحرب او الصراع العنيف كانت رفيقة الانسان منذ بدء الخلق.. ولعلها الممارسة الوحيدة التي رافقة الاجتماع البشري وان باشكال مختلفة.
فهي حقيقة نظر لها البعض باعتبارها من ضرورات الوجود وندد بها اخرون باعتبارها خلل وانحراف عن الطبيعة الانسانية. ولكنها في كل الحالات ظلت قائمة.. من الصراع على الطعام او على ارضاء الغرائز الى حب التملك وغريزة الهيمنة والتسلط وصولا الى الحروب الحديثة لامتلاك الثروات والارض والسيادة والتفرد بالسلطة.
ولا يختلف اثنان بأن الحرب كلها مؤلمة لما تحدثه من أضرار وخيمة مادية وبشرية كبيرة. لكنها في الكثير من الأحيان قد تكون حاجة ملحة من أجل الدفاع عن الأوطان وردع الاعتداء عليها.. او من اجل الحقوق والكرامة والحرية.
لذا ولتعدد الاسباب والاهداف تكاد لا تنجو أمة أو جيل من معايشة الحرب!! فمنذ القدم وبنو آدم في نزاع مستمر ودائم إلى غاية الآن، ففي دراسة أجرتها مؤسسة كارنيجي للسلام عن حروب العالم في التاريخ ذكرت بأنه منذ العام 1469 ق.م إلى غاية 1861، أي ما يقدر بــ: 3357 سنة شهدت البشرية 227 سنة من السلام في مقابل 3130 سنة من الحروب، بمعنى آخر هناك 13 سنة من الحرب مقابل كل سنة من السلام.
والاديان كانت جزءا اساسيا من هذه الحروب.. قد خاض المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرات المعارك، ولكن الملاحظ ان عدد القتلى فيها جميعًا يجاوز الألف بقليل، وهو رقم ضئيل جدًّا يؤكد حقائق مهمة عن رؤية الاسلام للحرب والضوابط التي وضعها لها.. وهو ما اعتبر علامة فارقة في تاريخ البشرية.. عبر عنها غوستاف لوبون احد المفكرين العالميين بان التاريخ لم يشهد فاتحين ارحم من العرب.. اي المسلمين.
وأصل الحرب، حسب ابن خلدون، هو إرادة انتقام بعض البشر من بعض، وأسباب هذا الانتقام في رأيه أربعة، وهي:
1-الغيرة والمنافسة، فهي حروب امتلاك الأرض وخيرات الطبيعة، أو من أجل فرض السيطرة وتوسيع النفوذ.
2-العدوان، وهو ما مارسته الأمم التوحشة التي تبحث عن حاجاتها وارزاقها بالسيوف والرماح والقوة العضلية وانتزاع ما في أيدي الناس بالقوة.
3-الغضب لله ودينه، وهو المسمى في الشريعة بــــ: “الجهاد”، ويلحق بذلك أصناف الحروب الدينية، أو التي تتخذ من الدين ذريعة كما فعلت تفعل فرق الخوارج والجماعات الارهابية.
4- الدفاع عن الامر الواقع وحماية السلطان ضد الخارجين عليها.
ثم يوجز ابن خلدون الأصناف الأربعة في صنفين فقط، وهي حروب بغي وفتنة، ويدرج فيها حروب الغيرة والمنافسة وحروب العدوان؛ و حروب جهاد وعدل، ويضمنها الحروب الجهادية وحروب الدول مع الخارجين عليها.
وهكذا فان ابن خلدون يبرر أخلاقياً حروباً دون أخرى.

الاسلام ومفهوم الحرب..
والحروب حسب التصور الإسلامي ليست حروب اضطهاد أو تعصب ضد الاخر، بل هي تأخذ مشروعيتها باعتبارها حرب دفع.. او دفاع عن النفس او انتصارا لحق مسلوب او ظلم واقع..
وليس في الاسلام حروب للاستيلاء على البلدان او اخضاع الشعوب او السيطرة على ثرواتهم.. او فرض النفوذ والهيمنة. وبالتأكيد ليس لإكراه في الدين او محاربة المخالفين في العقيدة. وإنما تم تشريع الجهاد للدفاع عن الناس وحماية الإسلام.. كما قال تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
وحتى عندما اجاز القرآن الكريم القتال قرنه بالدعوة الى السلم في اي فرصة سانحة.. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ ..
فالحرب مكروهة في اصلها لكنها شرعت اضطراراً لدفع العدوان عن المسلمين وديارهم وأموالهم، ولمحاربة الظلم ونصرة المظلومين، واضطهاد الأقليات المسلمة، وذلك من قوله تعالى: ”وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”، بل يحض القرآن الكريم على القتال لاسباب محددة وضيقة لقوله تعالى: ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا”.
ونلاحظ هنا ان الجهاد وهو اللفظ الاسلامي للتعبير عن الحرب انما جاء بمعان مختلفة وكلها لا تعني القتال والحروب.. فهو يعني البذل والعطاء والكدح في المجالات كافة، فالذي يذل ماله من أجل العقيدة فهو مجاهد، والذي يوظف عقله وقلمه أيضاً يعتبر مجاهدا، وما شابه ذلك.
وحول محدودية الحرب في الإسلام، فلقد شرعت في إطار ضيق وفق ضابطين مهمين؛ الأول يتعلق بأن أعمال القتال يجب أن لا تتجاوز أهدافها في دفع العدوان فقط، والا تحولت الى عدوان محرم.. قال تعالى: “قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا”، وهنا يتضح ان القتال هو ضد من يقاتل المسلمين اي حرب دفاع.. ولا تعتدوا اي عدم تجاوز الحدود واستهدف غير المحاربين. أما الضابط الثاني فيتعلق بأن الحرب العدوانية ضد القيم والتي تهدف إلى التدمير والخراب هي إفساد وحرام شرعاً..
والضابط الثالث ان القتال يجب ان يتوقف اذا توقف العدوان، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ..
لذا فالإسلام يتبرأ من الأفعال والنشاطات الإرهابية التي تقوم بها جماعات منظمات تدعي الإسلام في الوقت الراهن من أجل تحقيق أهدافها السياسية مرتكبة بذلك جرائم بشرية وتخريب للعمران والاقتصاد.
كما قيد الاسلام الحروب بالتقوى.. اي عدم المبالغة والفجور كما يفعل الظالمون.. قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ..
ونهى الاسلام عن القتل بالشبهة او القتل العشوائي والمجازر الجماعية.. قال تعالى :
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا۟ لِمَنْ أَلْقَىٰٓ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوٓا إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا..
وقد شرع الله تعالى القتال الدفاعي دون غيره لقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا۟ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلآ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا ٱللَّهُ.

ضوابط الحرب
ولان الحرب مكروهة والكل يعرف ويلاتها واثارها الكارثية كما عبر عن ذلك الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى: وما الحرب الا ما علمتم وذقتم.. ووما هو عنها بالحديث المرجم.. متى تبعثوها تبعثوها ذميمة.. وتضر اذا ضريتموها فتضرم..
فحتى الشعوب القديمة والجاهلية وضعوا قواعد وحدودا لاساليب الحرب.. وكان كل ما تجاوز ذلك منبوذا بل بعاقب عليه فاعله..
ولما جاء الاسلام كرس ذلك بشكل محكم في ايات القرآن الكريم.. وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله..
ويبقى ان السلم والسلام والجدال بالتي هي احسن هي الأصل في الإسلام، لقوله ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وإذا شرعت الحرب في الإسلام لأسباب وأهداف محددة، فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحد مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيرها الشهوات، كما جعلها ضد الطغاة والمعتدين لا ضد الابرياء والمسالمين.
وتتمثل أبرز هذه القيود الأخلاقية فيما يلي:
أولا: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال: فقد ذكر احد رواة الحديث قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمررنا على امرأة مقتولة، قد اجتمع عليها الناس، فأفرجوا له، فقال: «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فِيمَنْ يُقَاتِلُ»، ثم قال لرجل: «انْطَلِقْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْمُرُكَ، يَقُولُ: لا تَقْتُلَنَّ ذرِّيَّةً، وَلا عَسِيفًا» والمقصود النساء والاجراء اي العمال..
ثانيا: عدم قتل المتعبدين
ثالثا: عدم الغدر..
قال صلى الله عليه وسلم: “من أمَّن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا”.
ومن وصاياه صلى الله عليه واله وسلم في حديثه مع سراياه: “اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله.. اغزوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا..”
رابعا: عدم الإفساد في الأرض
خامسا: الإنفاق على الأسير
سادسا:عدم التمثيل بالميت..
ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم، فإنه لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه هدَّد المسلمين تهديدًا خطيرًا إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال: “أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ”.
سابعا: المعاملة بالمثل مع التقوى: فإذا كان الأعداء مثلاً يقتلون الكبار والصغار ويهتكون أعراض النساء، ويعذبون الأسرى بالجوع والعطش وغير ذلك، فإنه لا يباح للمسلمين أن يقوموا بمثله، ذلك لأن الإسلام يمنع المساس بكرامة بني آدم.
ثامنا: حماية رعايا الأعداء وأموالهم: إن الحروب الإسلامية ليست حروباً ضد شعوب، وإنما هي حروب ضد فئة معينة مسيطرة
تاسعا: احترام العقد في حالة نهاية الحرب مع العدو.. لقوله تعالى: “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً”.
عاشرا: نهت الشريعة الإسلامية عن قتل الرسل أو ما يسمى اليوم بالوسطاء والسفراء وأصحاب المساعي الحميدة، وقتل الأسرى والجرحى ، ونهت أيضاً عن التعذيب بمختلف أشكاله.

الحروب في الزمن الحالي
تخالف هذه الحرب كل الاعراف والقيم السابقة وذلك لسببين:
اولا : انعدام المرجعيات الاخلاقية والقانونية والدينية.
ثانيا: لانها حروب استعمارية خالصة..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى