تجاذبات فكرية حول مصير المنبر الحسيني… عرض ومناقشة
بقلم: العلّامة السيّد أحمد الأشكوري
الاجتهاد: إنّ فكرة المنبر بما تحمله من جنبة دينية قد اقترنت ببداية الدعوة الإسلامية، على يد الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه واله)، الذي كان يقف أثناء حديثه مع الناس، ممّا حدا ببعض المؤمنين من الذين شعروا بتعبه (صلى الله عليه واله) أن يجعلوا له جذعاً من النخل؛ كي يتكئ عليه أثناء حديثه وخطابه بينهم، ثمّ بدأت القضية تتطوّر ـ بعد ذلك ـ إلى أن بُنيت له أعواد وبدأ يجلس على تلك الأعواد ويخطب بالمسلمين في المناسبات الدينية التي يغتنمها (صلى الله عليه واله) لتعليمهم وهدايتهم.
ولهذا نجد أنّ المنبر الديني قد اكتسب ـ نتيجة هذه البداية التأسيسية ـ شيئاً من القدسية والاحترام، وقد بقيت هذه القدسية مستمرة إلى يومنا هذا، وذلك أنّ عموم المسلمين يكنّون الاحترام والتقدير للمنابر الدينية بشكل عام، على الرغم من سعي بعض أعداء الله ـ في المدّة التي أعقبت رحيل النبي (صلى الله عليه واله) ـ إلى سرقة هذه القدسية؛ إذ كانت هنالك محاولات لنقل منبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) إلى الشام؛ هادفين من وراء ذلك إلى إضفاء الشرعية على حكمهم الزائف، وإلباس ما يتلونه في محافلهم لباس المشروعية والمصلحة الدينية، خصوصاً ما يتعلّق بسبّ ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إلّا أنّ الإعجاز الإلهي ـ وكما هو مسجّل في التاريخ ـ حال دون تحقيق هذا الأمر، وبقيَ المنبر محافظاً على الهالة القدسية التي اكتسبها ببركة اعتلاء النبي (صلى الله عليه واله)، واتخاذه له في خطبه المختلفة أثناء تواجده بين المسلمين.
بل نلاحظ أنّ هذا المنبر قد نال جملة من الآثار الشرعية التي استمرت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله)؛ حتى أنّ المعتمر والزائر للمسجد النبوي بعد أدائه مراسم زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه واله)، يأتي بمجموعة من الآداب الدالة على بقاء مكانة المنبر وقيمته في نفوس المسلمين.
ثمّ ازداد الاعتناء والاهتمام بموضوع المنبر، وبقيَ مستمراً حتى زمان حدوث واقعة الطف الأليمة، فأخذ المنبر بعد هذه الواقعة صفة أُخرى وعُنون بعنوان إضافي وهو: (المنبر الحسيني)، وقد شَيّد المنبر الحسيني بنحو الأصالة الإمام الصادق (عليه السلام)، الذي كان يرعى ويهتم بالمنبر الحسيني سواء كان على صعيد المضمون، أم المنهج، أم الأُسلوب، فقد كان (عليه السلام) يذكر تفاصيل متعدّدة في كيفية إحياء ذكرى عاشوراء، وما جرى على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه من مآسٍ ومحن، فهو من ناحية المضمون كان يوصي الشيعة بأن تتمحور مجالسهم حول إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، الذي لا ينفك عن كلّ ما شأنه تقوية الدين الإسلامي، وإرساء دعائمه، وتقوية شوكته؛ إذ روي عنه (عليه السلام) مخاطباً الفضيل بن يسار:( ” تجلسون وتحدّثون؟ قلت: نعم. قال: تلك المجالس أُحبُّها فأحيوا أمرنا رحم الله مَن أحيا أمرنا…).
وروي عنه أيضاً (عليه السلام) أنّه قال: (تلاقوا وتحادثوا العلم، فإنّ بالحديث تُجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا فرحم الله مَن أحيا أمرنا). وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تضمّنت الحثّ على إحياء أمرهم (عليهم السلام).
أمّا فيما يتعلّق بالمنهج الذي يتمّ السير عليه في مثل هذه المجالس، والمحور الرئيس الذي تدور حوله جميع الأحاديث التي تُطرح فيها، هو عبارة عن ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، خصوصاً ذكر ما جرى على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في واقعة الطفّ ومسيرة السبي، وهنا يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في تكملة خطابه مع الفضيل بن يسار في الرواية المتقدّمة:( “يا فُضيل، مَن ذكرنا، أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينيه مثل جناح الذُّباب غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر).
وقال (عليه السلام) في حديث آخر: “ومَن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنّة”.
هذا، ولم يكتفِ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الحدّ، فقد وردت عنه روايات حول طبيعة الأُسلوب الذي يتمّ فيه تأدية مثل هكذا مجالس، ومن ذلك ما ورد عنه حول ضرورة إنشاد الشعر رثاءً للحسين (عليه السلام)؛ إذ قال:( “مَن أنشد في الحسين بيت شعر فبكى وأبكى عشرةً، فله ولهم الجنّة”.
كما يصل الأمر إلى تدخّله (عليه السلام) في أُسلوب إنشاد الشعر الرثائي؛ إذ يطلب من بعض المنشدين أن يكون الأُسلوب في إلقاء شعره رقيقاً ومشجياً، من ذلك ما ورد عنه (عليه السلام) مخاطباً أبا هارون المكفوف: (يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السلام). قال فأنشدته فبكى، فقال أنشدني كما تُنشدون ـ يعني بالرّقة ـ. قال فأنشدته:
امْرُرْ على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكيّة
قَالَ فَبَكَى. ثُمّ قال: زدني. قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف السِّترِ، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى عشراً، كُتبت له الجنّة…”.
وبعد الإمام الصادق (عليه السلام) نجد أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) سار على المنوال نفسه أيضاً، محاولاً منح المنبر الحسيني هالة وقداسة إضافية، وذلك من خلال تأكيداته المستمرة على قضية البكاء على الحسين (عليه السلام) وعياله وصحبه، فقد رُوي عنه (عليه السلام): “مَن تذكّر مصابنا فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب”.
ورُوي عنه (عليه السلام) أيضاً: “فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البُكاء عليه يحطّ الذّنوب العظام…”.