القضاء والقدر

الدكتور خالد الشفي

﴿وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا﴾

﴿وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولايابس الا في كتاب مبين﴾

﴿عالم الغيب والشهادة لا يطلع على غيبه احدا﴾

﴿من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه﴾

﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب﴾

القضاء والقدر ليس موسوعة الاديان السماوية فحسب، بل هو منظومة الكون كله وأساس كل عبادة… هو الإيمان كله.. بالوجود وكل موجود.. وأصل الوجود.. منذ فتق السموات والارض .

ولقد عبر عن هذا رسوله الامين محمد (ص) في سيرته العطرة مفسرا كتابه الكريم ومترجما له على ارض الواقع، فهو بلا شك ترجمان الايمان كله واهل لتحمل اعباء الرسالة.. رسول الله وخاتم الانبياء.. نعم الخاتم ونعم الرسول .

ان القضاء والقدر سر الحياة الآمنة المطمئنة وسر الشهادة، بل هو سكينة المؤمن ومصباح الطائعين على صراطه المستقيم!

القضاء والقدر له معنيان:

الاول: مادي والاخر معنوي… هذان المعنيان هما في حساباتنا الدنيوية وما يقدر عليه عقل البشر من تفسير وتعليل وتحمل.. لانهما علة الوجود بل علة كل حركة في كل ما هو موجود.. اضافة الى ما لا نطلع عليه من علم الغيب ولا قدرة لنا على استيعابه، فقد اسأثر به لنفسه جل جلاله وعظم شأنه سلطانه.. ومكانه..

المعنى المادي: هو قدرة الله تعالى على الخلق والوجود من العدم والتصرف بهذا الوجود وفق قوانين انيطت بهذه الموجودات من ملائكة وجن وبشر، نبات، حيوان وحجر.. مبينا ذلك في كتابه العزيز وكل ما اوكل الى انبياءه من معاجز وكرامات..

﴿لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾

المعنى المعنوي: وهو قدر الله ومقتضى حكمته وقضاءه في تقدير ارزاق العباد والموجودات… وعدله في حكمه وحكمته في خلقه بل هو علة الخلق.. وعلة وجود الوجود.. وعلة النشأة الاولى والاخرة بل هو أساس عدله ورحمته في الدنيا ويوم الحساب.. ﴿يوم لاينفع مال ولابنون﴾. وهذا المعنى نجده عندما نتدبر اياته… في قدرته وحكمه وحكمته.. وفي مضامين ومعاني اسماءه الحسنى …!! بل ان كل السور في الكتاب تدل في اكثر من مرة على قضاءه وقدره.. قدرته وحكمه.. قدر الموجودات وقدرتها ومنها قدر الانسان بالنسبه اليه سبحانه.. ومصيرها (قدرها المحتوم)… وحتى علاقة مخلوقاته ببعضها البعض وقضاءه فيها!.

ثم اذا تمعنى جيدا نجد ان كتابه الكريم يشير الى امر اخر متصل بقضاءه وقدرته وهو متابعته وعنايته بخلقه من تثبيت.. وتثبيط… ونصر وهزيمة وهداية… للفرد والامة.. وحينئذ يكون معنى الاية الكريمة ادناه واضحا وجليا ﴿وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا﴾.

اذن ما فائدة الايمان بالقضاء والقدر؟ وهل هو واجب عيني.. كفائي.. أم أمر ترفيهي أكاديمي.. او مجرد فلسفة في علم اللاهوت؟ وهل الايمان به يجيب على اسئلة مهمة ومنها:

لماذا لا يتدخل الله في نصرة المظلومين مثلا؟

لماذا هناك زلزال.. وهنا فيضان يفقد فيها الابناء والأحباب ويتيتم به الابناء؟

لماذا هنا فقر وهناك قوة؟

هنا جبروت وطغيان وهناك ضعف وذله وهوان…؟

او لماذا الموت؟ وهل الحياة مجرد عبث؟

اسئلة كثيرة هي من صلب الايمان.

الايمان بالقضاء والقدر لا شك انه واجب عيني وحتمي كالايمان بالخالق ولكنه يمثل نقلة عملية من مجرد ايمان بخالق للكون وسموه وعلوه.. الى الإيمان بالاستحقاقات المترتبة على هذا الايمان!!.. ليس هذا فحسب وانما هو العبادة المستمرة وتوكيد الصلة الدائمة مع الله سبحانه.

هذا الإيمان يعززه الدعاء وما الصلاة والصوم والحج والزكاة وكل الشعائر الا ترجمة لهذا الايمان… انه اذعان متواصل.. ومخ العبادة! أي ان الإيمان به يدل على ان المؤمن قد عرف قدر ربه واستحقاقه وما هو الا شكر لقضاء وعدله وحكمته في مخلوقاته.

الحياة كما وصفها الباري مستمرة لا تنقطع ولكنها على مراحل وما فقد في الدنيا يعوض بالآخرة، بل ان الدنيا معبر للآخرة ومتاع وهذا ايضا سر من اسرار القضاء والقدر.

ولو تصفحنا القرآن الكريم نجده يعبر عن قدر الله وقدرته وقضاءه وحكمته.. جزاءه وعدله. في كل سورة من سوره وكل مناسبة.. بل اكثر آياته تدل عليه . بل لو نظرنا الى الكون وحركة الكواكب لعرفنا قدر الخالق وقضاءه في خلقه.. سعة علمه.. حكمته ورحمته بل حتى في قصص واحوال انبياءه ومصير من كان حولهم. ﴿والشمس والقمر بحسبان فبأي الا ربكما تكذبان﴾.

ولا يسعنا الا ان نصلي ونسلم على الرسول الهادي الذي عان الكثير لا يصال هذه الرسالة الينا (ص). لكن للأسف انقسم الناس وفق الفهم الجزئي للدين الى اشاعرة ومعتزلة وفق فهم وفلسفة قاصرة وهي هل ان الانسان مخير ام مسير؟ وابتعدوا على الصورة الكلية للدين كما هي متكاملة.. جميلة.. واضحة في القرآن الكريم.. وهذا ما ابتلي به علماء الدين ايضا. بل حتى في بداية الدعوة، انقسم الناس الى مؤيد وجاحد. فالذين عرفوا قدر الإسلام آمنوا وسلموا واستسلموا.. وسلموا تسليما.

 انقادوا الى رسوله انقيادا تاما.. ولم يجدوا في انفسهم حرج من ذلك.. رضي الله عنهم ورضوا عنه.. عرفوا قدر ربهم ونالوا من ربهم قدرا عظيما.

واما الذين كفروا وجحدوا وكذبوا فقد وصف القرآن احدهم وهو الوليد بن المغيرة، حين استحب العمى على الضلالة:

﴿فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر… ثم ادبر واستكبر﴾!! لقد عميت بصيرته.. ولك ان تتأمل مصيره وحكم الله فيه وقضاءه!!

ثم قال الباري تعريفا لنفسه.. مبينا غفلة المشركين بمكانته، ﴿فما لهم لايؤمنون واذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون﴾ وكأنما السجود كان ثقيلا عليهم او ان الباري لا يستحق ذلك.. سبحانه! ﴿وماقدروا الله حق قدره.﴾

قال نبينا الاكرم ما معناه لا يمسك بهذا الدين الا من احاط به اي عرفه كاملا (لايقوم بهذا الدين الا من احاط بكل جوانبه)..

﴿وقال الرسول ياربي ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا ﴾.

فمن عرف قدره عرف قدر ربه، والعكس صحيح، ومن عرف قضاءه وحكمته زاد قدره عند ربه ورسخ ايمانه وتعلق بخالقه واستزاد من هديه وحكمته حتى يكون في اعلى عليين … ﴿في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾. ﴿فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد﴾.

 اذا لا مفر من قضاء الله الا باللجوء الى قدره ولا يمكن معرفة قدره الا بالإيمان والأطمئنان لقضاءه وحكمته!!..

ايها القارئ العزيز تصفح القران ففي كل صفحة تجد نفسك دائما في رحاب الله. فكل ذكر فيه الا وهو ذكر لقدرك او قدره… حكمه وقضاءه فيك حتى تنتهي بمحصلة وهي حكمك في جلاله وعظمته.. انه قضاءه.. فهو محيط بك من كل جانب.

ان اول الدين معرفة ألله (علي بن ابي طالب عليه السلام).

﴿كلا لا وزر الى ربك يومئذ المستقر﴾.

﴿ما فرطنا في الكتاب من شئ﴾.

صدق الله العظيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى