د. سعيد الشهابي: موقع الدين في الحياة العامة
احتفى الايرانيون هذا الشهر بالذكرى الثانية والاربعين لانتصار ثورتهم التي قادها الامام روح الله الموسوي الخميني من منفاه حتى أسقطت نظام الشاه في 11 فبراير 1979. وعلى مدى اكثر من اربعة عقود دفعوا ثمن انتصارهم باهضا، اذ فرضت عليهم عقوبات جائرة لم يتعرض شعب لمثلها من قبل. وثمة أسباب لذلك على رأسها ترويج مشروع سياسي مختلف تماما عما ألفته الاجيال آنذاك، التي عاصرت التنافس بين مشروعين فكريين وسياسيين: اشتراكي شيوعي ورأسمالي ليبرالي. ويسجل للامام الخميني صلابته في الموقف ومبدئيته ونفاذ بصيرته عندما أوصل الاسلام في بعده السياسي الى الحكم. وكان لذلك الامر انعكاساته الاقليمية والدولية التي ما تزال مستمرة حتى اليوم. فما التنكيل الذي لحق بالاسلاميين طوال نصف القرن الماضي الا بسبب ما يحملونه من مشروع تضافرت قوى العالم على وأده، تارة بالقمع غير المحدود، واخرى بالدعاية المضادة وثالثة بالحروب والوسائل القذرة مثل التطرف والطائفية والارهاب، واخيرا بالحرب الناعمة. وقد ادرك علماء ايران ابعاد طرحهم السياسي المؤسس على الخصوصية الفكرية والدينية واستقلال القرار واقامة حكم القانون المستند لاحكام الشرع.
بعد هذه التجربة الطويلة التي تخللتها ظلامات بلا حدود، ربما رجحت الكفة لصالح القوى العالمية والاقليمية المعادية للمشروع الاسلامي. وليس خافيا وجود قوى داخلية في العالمين العربي والاسلامي اصبحت رأس حربة في الحرب المثارة على مشروع الحكم الاسلامي. وبلغ الامر ذروته بتخلي رواد الحركة الاسلامية المعاصرة الذين حملوا راية ذلك المشروع عنه لكي يتفادوا سطوة الغرب القاسية. واذا كانت سياسة مواجهة هذا المشروع قد تأسست على التصدي له باستهداف ايران باعتبارها الرمز الابرز لمشروع ما اصطلح الغربيون على تسميته “الاسلام السياسي”، فانها توسعت في السنوات الاخيرة لتشمل استهداف الاسلام كدين وعقيدة والتزام. وما الحملة التي تتصدرها فرنسا في الشهور الاخيرة الا تأكيد لذلك، وهي لا تختلف كثيرا عن السياسات التي انتهجها الرئيس الامريكي السابق، دونالد ترامب. الصراع هنا لم يعد محصورا بالجوانب الفكرية والاطر السياسية للاسلام، بل توسع ليشمل الانتماء الديني في أبعاده العبادية والأخلاقية. فمنظّرو الغرب يعتقدون ان تنامي الالتزام بالديني سيؤدي دائما لتعمق الصحوة الاسلامية التي رفعت شعار “الاسلام هو الحل”. ومن المؤكد ان اخفاقات النظام السياسي العالمي في المجالات التي راج من خلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ستساهم تدريجيا في التمرد عليه من داخله. فقبل ثلاثين عاما كان هذا الغرب يحتفي بـ”انتصاره” التاريخي على منافسه الاشتراكي، ويخطط لمواجهة مع المشروع الاسلامي ضمن ما اطلق عليه “صراع الحضارات” واحتفى يومها بتوسع المشروع الديمقراطي خصوصا بعد ان احتضنته جمهوريات اوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ولكن هذا الغرب، لأسباب تتعلق بشيخوخة مشروعه او الانقراض الطبيعي او تدني مستويات قياداته او إصابة منظّريه بالاحباط، اصبح يتخلى تديجيا عن مقومات مشروعه.
وفيما تحتفي ايران بذكرى ثورتها، فان الانظار ما تزال مسلطة على ما تحمله من مشروع ايديولوجي ما يزال قائما برغم كافة جهود التصدي له سواء على مستوى ايران ام بقية اطراف العالم الاسلامي. فهل ما يزال “المشروع الاسلامي” بديلا عمليا للنظام السياسي الذي هيمن على العالم منذ ثلاثة ارباع القرن؟ ومن الصعب الاجابة على هذه التساؤلات. ففيما عدا ايران وبعض الجهات والفصائل المحسوبة عليها، لم تستطع الحركات الاسلامية الصمود على مشروعها، بل ان اغلبها تخلى عن ذلك، معتقدا ان ذلك من مستلزمات البقاء في الساحة السياسية. بل ذهب بعضها لأكثر من ذلك، فالتحق بقطار التطبيع بهدف حماية نفسه من غضب الغرب الرافض للمشروع الاسلامي. لذلك فان الاحتفاء بذكرى ثورة ايران يجب ان لا يحصر بالمظاهر السطحية، بل يجب ان يتوسع ليشمل السجال الفكري الجاد حول ذلك المشروع بعد عقود من التجارب. لو حدثت هذه المراجعة لكانت انجازا عظيما في زمن هجره الفكر والعقل والبصيرة والإيمان.