لِماذا بَقِيَتْ مَناسِكُ الحَجِّ إِبراهِيمِيَّةً؟

الشيخ زعيم الخيرالله

يتساءلُ بعضُ الكتاب، لماذا بقيت مناسكُ الحَجِّ إِبراهِيمِيَّةً خالِصَةً؟ ولماذا تَمَّ تغييبُ غارُ حراء الذي كان النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّم يَتَعَبَدُ فيه، والذي نزلَ الوحيُ على النبيِّ صلى الله عليه وآلهِ وسلم فيه؟ لماذا ظَلَّتْ المَناسِكُ فيهِ إبراهيميَّةً ولم تكن مُحَمَدِيَّةً؟ لماذا غُيِّبَ البُعْدُ الاسلاميُّ في الحَجِّ؟

هذه التساؤلاتُ المَشروعَةُ تحتاجُ الى إجاباتٍ حاسِمَةٍ .

قد يَتَساءَلُ البَعضُ لماذا كانت المناسكُ إِبراهِيمِيَّةً ولم تكن عيسويَّةً أو موسَوِيَّةً باعتبارِ أنَّ هاتينِ الديانَتَينِ أَقربُ الى الاسلام زماناً منَ المِلَةِ الابراهِيمِيَّةِ؟ والجواب على هذا التساؤلِ هو أنَّ القربَ هنا ليسَ هو القربَ الزمانِيَّ وإنَّما هو قرب المبادئ وقربُ التوحيد، فالمسيحيَّةُ ثَلَثَتْ بعد أن كانت مُوَحِدَةً واليهوديَّةُ شابتها شائبَةُ الشركِ بعد قولهم :﴿عزيرٌ ابن الله﴾.

ولكنَّ ملَةَ إبراهيم ظلت على التوحيد ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. النحل:الاية:123.

ولذلك أوحى اللهُ الى النبِيِّ (ص) أنْ يَتَبِعَ ملَةَ ابراهيم؛ لانَّ إبراهيم كان حنيفاً (مستقيماً غير مائلٍ عن التوحيد) ولم يكن من المشركين.

والاختلاف بين ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم اجمعين، ليس في التوحيد وانما الاختلاف في الشريعة، وليس الاختلاف في كل الشريعة؛ لان الشرائع تشترك في تشريعات ثابتة مشتركة وانما الاختلافات تأتي في التفاصيل. ومن المشتركات بيننا وبين الملة الابراهيمية هو الاشتراك في مناسك الحج وطقوسه.

وكما ان النبي (ص) أُمِرَ باتباع ملة ابراهيم باعتبارها ملة التوحيد والتوحيد مشترك بين الملل، كذلك الهدى “هدى الرسل” واحد لايختلف بين نبي وآخر؛ لذلك امر الله تعالى النبي (ص) ان يقتدي بهدى الانبياء عليهم السلام:

﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ۗ قُل لَّآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ﴾. الانعام:الاية:90.

العلاقة بين إبراهيم (ع) ومحمد (ص) علاقة المقدمة بالنتيجة

هل كان إبراهيمُ هو الأصل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أم كان محمدٌ صلى الله عليه وآلِهِ وسلم هو الاصل؟ وحينما أقولُ الأصل، لا اعني بالاصل الاصل البيولوجي؛ لانَّ إبراهيمُ كان اصلاً بيولوجياً لمحمد (ص)؛ فمحمد تولد من إبراهيم عليه السلام. ولا اعني في الأصل الأصل الزماني؛ لان إبراهيمَ أَسبقُ زماناً من محمد (ص)؟ وانما اعني بالأصل هو ان المخطط الآلهي لقدومِ ابراهيم عليه السلام الى ارض قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع وجلب اسماعيل وامه معه، كان الهدف من كل ذلك هو النبي محمد صلى الله عليه وآله، لان ابراهيم عليه السلام واسماعيل كانا مجرد مقدمة وتهيئة وتحضير للنبي (ص) ورسالته الخاتمة. فعلاقة ابراهيم بالنبي هو علاقة المقدمة بالنتيجة .

ولذلك القرآنُ الكريم يقول: ﴿مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ). ال عمران: الاية:67.

اما الحديث عن لماذا لم يكن غارُ حراء الذي هو منطلق الرسالة جزءاً من مناسك الحج؟

غار حراء والصعود اليه يكلف جهداً ومشقةً على الناس، فلو كان الصعود اليه جزءاً من مناسك الحج؛ لاصبح في ذلك مشقة وحرجاً على الكبار والنساء والمرضى والدين ليس فيه حرجك.

﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ﴾ . (الحج: الاية:(78))

ولذلك تركت لقدرة الانسان ولم تفرض عليه كجزء من مناسك الحج.

بقي عندنا السؤال وهو (هل ان المناسك ثابتة وغير قابلة للتغيير والتجديد؟)

المناسكُ هي عبادات والعبادات كما يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر تلبي حاجةً ثابتةً، فهي غير قابلةً للتغيير. نحن هنا نتحدث عن طقوس وشعائر توحيدية، فهي غير قابلة للتغيير، امّا الطقوس والشعائر الوثنيّة فهي ليست طقوساً وشعائر معترفاً بها في دين التوحيد هذه الطقوس تغير وتبدل ولانبقي لها اثراً .

النقطة الاخرى التي اثيرت هي ان الامام الخميني رحمه الله تعالى أطلق شعار البراءة من المشركين في الحج؟ اليس هذا تجديداً في شعائر الحج؟ لا، هذا ليس تجديداً؛ لان البراءة موجودة قرآنياً:

﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ .(التوبة: 1 – 4).

الامام الخميني رحمه الله تعالى لم يستحدث هذا المفهوم بل فعلَّهُ وبثَّ فيه الحياة. الامام فقط أحيا هذا المفهوم الذي كان موجوداً. الامام لم يستحدث طقساً حتى يقال: ان هذه الشعائر والطقوس يمكن تجديدها وحذف بعضها .

وهذا الحكم – من وجهة نظري القاصرة- هو حكم ولايتي يتدخل ولي الامر لتفعيله، واحياناً قد يرى المصلحة في التوقف عن الحج موقتاً والتوجه الى القدس كما وجه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء؛ لان هناك مؤامرة على القدس تقتضي حضور المسلمين في الميدان لابطالها. فيجب توخي الدقة في تحديد هذه المفاهيم .

في الختام، الحج حجٌ ابراهيميٌ خالص، امر النبي باتباعه وامرنا باتباع خطوات ابراهيم وحركاته، وهنا نستشعر أَهميَّةَ التاريخ، نحن أمة ليست منقطعة الجذور وانما نحن امة ممتدة في عمق التاريخ، وخطوات ابراهيم كانت خطوات التوحيد، وهناك ارتباط قوي بين ابراهيم عليه السلام ومحمد خاتم الرسل ارتباط المقدمة بالنتيجة؛ لان الاصل هو الرسالة الخاتم وبقائها وما ابراهيم واسماعيل وبناء البيت الا مقدمات لهذه النتيجة الكبرى وهي الرسالة الخاتمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى