وحدة الأمة وقيمها الإنسانية تتجلّى في الحجّ
د. سعيد الشهابي
حجم العبادات الإسلامية لا تنفصل عن الحياة العامة للبشر، بل تكملها وتوجهها. هذا بشرط أن يتم استيعاب مقاصد الشريعة ومعاني العبادة. فللصلاة والصوم أبعاد متصلة بالحياة وليست علاقة روحية محصورة بين الإنسان وخالقه فحسب. والحج كذلك فريضة ذات أبعاد تتجاوز جانبها التعبّدي المتصل بالله سبحانه وتعالى. إنها رحلة مقدّسة يمارسها من يؤمن برسالات السماء، يتجه الفرد فيها ضمن الجماعة المؤمنة نحو بيت الله ليمارس طقوسا معروفة ذات أهداف نبيلة لا يستوعبها إلا من يتمعّن فيها. وقد أسهب المفكر الإيراني، الدكتور علي شريعتي في كتابه “الحج” في استنطاق شعائر الحج وربطها بالإنسان ودوره ومسؤولياته كخليفة لله على الأرض. ومع ضرورة التركيز على أداء شعائر الحج وفق التعليمات الإسلامية التي يتوافق أغلب المسلمين عليها، وذلك شرط ليكون الحج مقبولا من الله، فإن من الضروري كذلك السعي لاستيعاب رمزية تلك الشعائر لتصبح حياة المسلم متكاملة في أبعادها العبادية والحياتية. فالنفرة نحو المشاعر المقدّسة في “أيام معلومات” من كل عام يؤكد وحدة الأمة من جهة، ويمنحها هيبة خاصة أمام العالم. ومشهد الحجيج وهم يطوفون حول الكعبة او يسعون بين الصفا والمروة أو يصعدون إلى جبل عرفات أو ينفرون من مزدلفة لا يتكرر كثيرا في بلدان العالم، لذلك أصبح للحج دور في وضع أمة المسلمين في بؤرة الاهتمام العالمي. يضاف إلى ما يمثله من وحدة عملية بين المسلمين المطالَبين بسلوك متميّز خلال موسم الحج يخلو من اللغو وسوء الأدب او حتى الجدل والمراء. كما يساهم الحج في إظهار اهتمام الإسلام بحفظ الأمن والسلام والحفاظ على البيئة والمخلوقات الأخرى، فالحاج ممنوع حتى من قتل البعوضة ما دام محرما. أليس في ذلك درس للمهتمين بشؤون البيئة والحفاظ على نوعياتها؟
يكاد التوافد نحو المشاعر المقدسة في مكة المكرّمة يكتمل هذه الأيام، حيث يتجاوز عدد الحجاج عادة مليوني إنسان يتجشمون عناء السفر من بلدان قاصية ليحظوا بالحضور ضمن الجموع التي لبّت النداء الإلهي الواضح في القرآن الكريم بدعوة الناس للحج. فتأتي التلبيلة على لسان الحجيج: لبّيك اللهم لبّيك. وبالنسبة لأغلب الوافدين، يعتبر الحج رحلة العمر التي تنعكس علي إيمانهم وفكرهم وربما سلوكهم. لذلك اهتم التشريع الإلهي بها، ذلك التشريع الذي اكتمل بالإسلام، وجعل الحج فريضة على كل مسلم قادر ماديا وجسديا. وبينما اختلفت أنماط العبادات الأخرى بين الأديان، فقد بقي الحج ثابتا منذ أن بدأه سيدنا إبراهيم الخليل بعد أن بنى الكعبة: “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”. ولذلك أطلق على هذه العبادة “الحج الإبراهيمي”. وأصبح هذا النبي مرجعا للأديان السماوية. وبرغم ما هو معروف عن سيدنا إبراهيم، فإن حياته وشخصيته تحتاجان لقراءات مستفيضة لان مكانته في التاريخ البشري أسست للظاهرة الدينية. وقد سار على هديه أجيال متعاقبة حتى ظهور الإسلام، فكان المؤمن من غير أتباع موسى وعيسى عليهما السلام يوصف بأنه على “دين إبراهيم” أو أنه “على الدين الحنيف”. وربطت هذه الحنفية بالإيمان الشامل: “إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين”. ومع أن ذكر إبراهيم لا يظهر إلا في موسم الحج، فإن دوره في التأصيل للفكرة الدينية كان عظيما، حتى استطاع البقاء أكثر من 6000 عام، وما يزال ذكره تلهج به ألسنة المؤمنين من جهة والباحثين في تاريخ الأديان من جهة أخرى. كما وهبه الله قوة المنطق والحجة: “وتلك حُجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه”.
ومما يجذب النظر توسع دائرة الإشارة لإبراهيم حتى على صعيد السياسة العالمية. وكما كانت هناك مساع حثيثة عبر التاريخ لاستغلال الأنبياء لأغراض سياسية بعيدة عن التوجه الديني والعبادي، ومنهم النبي موسى والسيد المسيح عليهما السلام، فقد أصبح اسم إبراهيم يتردد على ألسنة زعماء الدول في السنوات الأخيرة، ليس حبّا فيه أو احتراما له أو رغبة في إعادة إحياء تعليماته، بل لتحقيق أهداف سياسية واسعة. ويمكن اعتبار ما يقال عن “الدين الإبراهيمي” إحدى الدعامات الرئيسية للمشروع السياسي الهادف للتضليل والاستغلال والتشويش. فالمؤمنون لديهم تقدير كبير واحترام وحب لكافة أنبياء الله، خصوصا سيدنا إبراهيم الذي يتوجه المسلمون لحج بيت الله الذي بناه. فهم يمرون على “مقام إبراهيم” الذي يمثل الحجر التي استخدمها عندما كان يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل بعد أن أنجاه الله من الذبح. نحن هنا أمام سردية تاريخية ثابتة اخترقت الحدود وعبرت القرون وفرضت نفسها على أعلى مواقع السياسة العالمية في الوقت الحاضر. فما معنى أن يتحدث زعماء العالم عن الدين الإبراهيمي؟ جاءت هذه الدعوة بعد أن شعر زعماء الغرب بيقظة المسلمين في ذروة العدوان على غزة وبقية المناطق الفلسطينية. واتضح أن ذلك تأكيد لتغير مواين القوى في المنطقة لغير صالح قوى الاحتلال والهيمنة. فمن يرفع شعار الدين الإبراهيمي مطالب بموقف واضح عندما تتعرض مدينة الخليل في العمق الفلسطيني للاعتداءت المستمرة. وللخليل أهمية دينية للديانات الإبراهيمية الثلاث، حيث يتوسط المدينة المسجد الإبراهيمي الذي يحوي مقامات للأنبياء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وزوجاتهم. وفي السابع من تموز 2017، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” البلدة القديمة في مدينة الخليل والمسجد الإبراهيمي على قائمة التراث العالمي المُهدد بالخطر. كيف يمكن إحياء ذكره وترويج دينه الذي كان أساس الأديان السماوية الرئيسية بينما يغيب الاحترام والتقديس عن المدينة التي ارتبطت به وسمّيت باسمه؟
إن تغييب القيم المرتبطة بالحج، تاريخا وعقيدة وأيديولوجيا، لا يوفر لهذه الفريضة ما تستحقه من الاهتمام والتدبر والاحتضان الحقيقي. فالعبادات الإسلامية مرتبطة بواقع الحياة وليست منفصلة عنها. فالحج من وجهة نظر أحد الفقهاء “تَجَلٍّ وتكرار لجميع مشاهد إبداع الحب في حياة الإنسان والمجتمع المتكامل في الدنيا”. فلا مكان عند أداء الفريضة للاختلاف أو التدافع او الجدل غير المجدي لأن ذلك مناقض لمبدأ “وحدة الأمة” الذي يفترض أن يحققه الحج: “فلا رفث ولا جدل ولا فسوق في الحج”. هذه الفريضة تقتضي سفر المؤمن إلى مكة ليجتمع مع بقية الحجاج القادمين من بلدان أخرى عديدة، وليصبح أكثر التصاقا بصاحب البيت الذي يحج إليه. فهو ليس حركات وأعمالا وألفاظا يكررها الحاج، كما أنه ليس رحلة ترفيهية للنظر ألى بعض الأحجار ومشاهدة البيت. بل أنها تنطوي على الرغبة في رؤية صاحب البيت، فيتم توجيه الحركات والأعمال المؤدية لذلك اللقاء. إنه ليس لقاء جسديا بل انصهار روحي من قبل الزائر لكي تصبح صيرورته مرتبطة بالذات الإلهية التي لا تفنى. هذه الدروس والحِكَم متيسرة لمن يبحث عنها مستخدما العقل الذي وهبه الله إياه. وكما يقول أحد العلماء: “إنّ مناسك الحج هي مناسك الحياة، وعلى الأُمّة الإسلاميّة بمختلف قومياتها أن تصبح إبراهيمية لتلتحق بركب أُمّة محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام وتكون أمّة واحدة ويداً واحدة”.
وإذا كانت العبادات الأخرى تستهوي بعض المؤمنين والعُبّاد بشدة فيصبحون منشدّين إليها دائما، فإن بعض هؤلاء يشعر كذلك بانشداد كبير للحج، فيصرّ على التوجه إلى مكة المكرّمة بشكل منتظم، ليس خلال موسم الحج فحسب بل للعمرة كذلك. وفي الوقت نفسه ظهرت في السنوات الأخيرة نزعة لتحويل الحج إلى سلعة تجارية، فارتفعت تكلفته إلى مستويات غير مسبوقة. ويوما بعد آخر يصبح أداء فريضة الحج مهمة شبه مستحيلة أمام المسلمين ذوي الدخل المحدود. وبلغ تكلفة الحج أكثر من 7000 دولار خصوصا لمن يأتون من خارج المنطقة. وهذه ظاهرة تحتاج لاهتمام مكثف من حكومات الدول الإسلامية للاتفاق على أسعار معقولة. وسبق أن اتفقت هذه الدول على نظام الحصص التي تحدد عدد الحجاج المسموح لهم بأداء الفريضة من هذه البلدان. مطلوب تسهيل المهمة خصوصا أمام من يشعر بواجب أداء ما يسمى “حج الصرورة” أي الحجة التي يقوم بها المسلم للمرة الأولى. فمن غير العدل السماح للجشع التجاري بحرمان البشر من التوجه ألى بيت الله الحرام ليوثق علاقته بربه ودينه وإنسانيته. وما دام شد الرّحال إلى بيت الله الحرام إنما هو استجابة للنداء الإلهي: “وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق” فإن إحاطة الرحلة بتكاليف باهضة لا يساهم في تسهيل النداء المذكور، فهل هذا تصرّف يليق بالمسلم؟ لقد أصبحت أجواء الحج في الأعوام الأخيرة خالية من التوتر الذي شابها سابقا بسبب الخلافات بين طهران والرياض، فلتبذل الجهود لترويج قيم الحب والتسامح والوعي والإخاء لكي تتحقق مقاصد الحج كما أرادها الله بقوله تعالى: “ليشهدوا منافع لهم” بالتفاعل الديني والسياسي والثقافي في اجواء الأخوّة البعيدة عن التباغض والتشاحن. عندها سيكون شدّ الرّحال إلى بيت الله الحرام غاية كل مسلم يهدف لإكمال دينه وأداء عبادته ابتغاء لوجه الله. فما ألذّ مناسك الحج التي تتجسد فيها الإنسانية بشكل واضح: النقاء الّروحي، التحرر من العبودية إلا لله، التجرّد من المادّة، نبذ الضغينة والحقد، المساواة بين البشر، التخلي عن الطبقية، والتضحية في سبيل الله. فلله الحمد على هذه الشعيرة المقدّسة.
كاتب بحريني