معركة بدر وذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام

الدكتور عدنان هاشم

أحداث كبرى يصعب حصرها وقعت في هذا الشهر المبارك الكريم، ولكني سأذكر أحداثا جليلة في هذا الشهر زمن البعثة النبوية الشريفة. ففي اليوم العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة فتحت مكة فكان ذلك الفتح المبين الذي أرسى قواعد الإسلام لينطلق منها دينا عالميا والذي سيظهره الله على الدين كله كما وعدنا بذلك سبحانه. وهنالك غزوة بدر التي كانت أول نصر للإسلام في اليوم السابع عشر من رمضان، وفي هذا الشهر الكريم كانت شهادة إمام المتقين علي عليه السلام في ليلة الواحد والعشرين من رمضان، وفي العشر الأواخر كان نزول القرآن في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

سأسلط الضوء في حديثي هذه الليلة على غزوة بدر لأهمية تلك المعركة الفاصلة في تاريخ الإسلام واستشهاد أمير المؤمنين عليه السلام.

أقام النبي (ص) ثلاث عشرة سنة في مكة لم يؤمر فيها بقتال بسبب ضعف المسلمين آنذاك حتى إذا هاجر المسلمون إلى المدينة وقويت شوكة المسلمين بما يمكنهم بالوقوف في وجه قريش، أذن الله عند ذاك بقتال المشركين فنزلت الآية:

﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾ سورة الحج آية 39

أقبل أبو سفيان بقافلة من الشام فخرج النبي من المدينة في سرية من المهاجرين والأنصار ليتصدى للقافلة. وقد علم أبو سفيان بمسيرهم فغير الطريق وأرسل إلى قريش بقوله “انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها”. همت قريش ان ترجع لولا عناد أبي جهل وتشدده فكان منها قوله “والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا”.

تجهزت قريش للحرب، ولكن لو نظرنا جيدا لرأينا أن قريشا لم تكن متحمسة للقتال لولا إصرار أبي جهل وتحريضه خاصة عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس فلولا خبث عقبة بن أبي معيط لم يخرج؛ حيث عيره عقبة أنه سوف يجالس النساء عندما يكون قومه في ساحات الحرب. وقد تخلف عن الغزوة بطنان من بطون قريش وهم بنو عدي وبنو زهرة، ولم يكن أبو لهب متحمسا للذهاب للقتال فأرسل عبدا من عبيده مكانه. كان ذلك على عكس ما كان عليه المسلمون فكانت الروح المعنوية لديهم عالية جدا حيث عنصر الإيمان القوي والشعور بالظلم والاضطهاد والطاعة المطلقة للقيادة الحكيمة المتمثلة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا عجب أن انتصر المسلمون وهزمت قريش.
التقى المسلمون وكان عددهم فوق الثلاثمائة بقليل مع مشركي قريش وكان عددهم يربو على التسعمائة. كانت معركة صغيرة وغير متكافئة بالمعايير العسكرية. ولكن كان هنالك تدخل إلهي في هذه المعركة كما ذكر القرآن الكريم منه نزول المطر وإسباغ النوم الهادئ على المسلمين وإرسال الملائكة ليعينوا المسلمين على القتال وتقليل عدد المسلمين في أعين المشركين ليستخفوا بهم وبقوتهم وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين لئلا تنهار معنوياتهم وتخور قواهم. في سورة الأنفال تفصيل كبير لمعركة بدر ومنه:

 “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاسَ أمنة وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام. إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان”.

وعلى أرض المعركة نصب للنبي عريش ليشرف منه على المعركة، اجتهد النبي في الدعاء إلى الله سائلا له وللمسلمين النصر فكان من دعائه:

“اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أهلكهم الغداة. اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد”. ثم التفت النبي إلى المسلمين مشجعا إياهم “هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها.” ثم إن النبي (ص) أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال شاهت الوجوه ثم نفحهم بها.

برز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة طالبين المبارزة.  فخرج لهم ثلاثة من الأنصار. فقال عتبة “لا حاجة لنا بكم أخرجوا لنا أكفاءنا من قومنا”، فخرج عبيدة بن الحارث لعتبة وحمزة لشيبة وعلي بن أبي طالب للوليد بن عتبة والثلاثة من بني هاشم رهط النبي. فقتلوا الثلاثة من بني عبد شمس فكان ذلك أول الوهن الذي دخل على قريش ثم التحم الفريقان في القتال.

نتجت المعركة عن مقتل صناديد قريش، وإذا بأمية بن خلف ذلك الذي عذب بلالا وأذاقه حر الحديد يقتله بلال، وإذا طاغية قريش أبو جهل يعلو صدره عبد الله بن مسعود وكان مولى فقيرا يرعى الغنم لقريش فيقول له أبو جهل متحسرا بكبريائه التي لم تغادره حتى الرمق الأخير “لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم”، فأجهز عليه ابن مسعود واحتز رأسه. وقد قتل من المشركين سبعون من صناديدهم وأسر سبعون وبانت في تلك المعركة شجاعة علي عليه السلام فقد قتل لوحده نصف عدد من قتلوا في المعركة وكان ممن قتلهم حنظلة بن أبي سفيان. سحب المسلمون القتلى وألقوهم في القليب، والقليب هو البئر القديمة الشحيحة الماء.

 وخاطب النبي القتلى “يا عتبة ويا شيبة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان وفلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟” فسأله عمر بن الخطاب أتكلم يا رسول الله أجسادا لا أرواح لها؟ فقال عليه الصلاة والسلام “والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون”.

كانت غزوة بدر من حيث نتائجها أعظم معركة في الإسلام فلو خسر المسلمون في تلك المعركة أو قتل الرسول لانتهى الإسلام ولم يبق له أثر يذكر. نرى أهميتها في التدخل الإلهي المباشر وشدة دعاء النبي وتضرعه إلى الله في إنزال النصر على المسلمين. وبعد تلك المعركة تسامع العرب بالمسلمين كقوة يحسب لها حسابها بعد أن كانوا في نظرهم مجرد فئة ضعيفة ذليلة صبأت عن دينها. فكان العرب منذ ذلك الحين في موقف المراقب والمتربص ليروا لمن يكون النصر وعلى من تدور الدائرة. وما أن فتح النبي مكة في العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة حتى دخل العرب أفواجا في هذا الدين الحنيف. فلبدر يرجع الفضل في وجودنا كمسلمين.

نرى اشتراك خيرة الصحابة في بدر كعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود وسعد بن معاذ وعلي عليه السلام وعمه الحمزة فكان منهم من استشهد ومنهم من أصابهم التهميش والحرمان بعد انتقال النبي إلى الملأ الأعلى.

وكان سيد المحرومين علي بن أبي طالب فهو سيد الموتورين وأبو المظلومين إلى يومنا هذا. كان سأل النبي (ص) يوما عن علي فقيل له أنه نائم فقال “دعوه فإن له ليل طويل”. وكان ليله الطويل قد بدأ بوفاة النبي (ص) وكان قد عهد إليه “ياعلي إن هذه الأمة ستغدر بك بعدي”. فماتت حبيبته فاطمة بعد أبيها بقليل وزويت عنه الخلافة التي كانت تراثه من النبوة وبقي خمسة وعشرين عاما جليس داره لا يخرج إلا إلى الصلاة أو يذهب لقضاء حوائج المسلمين أو يحضر مجلس من سبقه من الخلفاء إن طلبوه لحل معضلة من المعاضل التي يعجزون عن حلها؛ حتى قال عمر في ذلك “لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن”. حتى إذا أتته الخلافة طائعة والبيعة جامعة نجم قرن الفتنة فإذا هو يحارب الناكثين والقاسطين والمارقين وإذا هو يقضي بقية حياته في ليل طويل كما تنبأ له رسول الله وحتى خاطب أصحابه “لقد وريتم قلبي قيحا” وحتى شكا للنبي (ص) في حلم رآه قبل استشهاده بقليل “يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟”  قال يا علي ادعو عليهم قال “اللهم أبدلني خيرا منهم وأبدلهم شرا مني” حتى إذا أتته الشهادة بضربة ابن ملجم اللعين نادى بأعلى صوته “فزت ورب الكعبة”. فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يعث حيا.

“كلمة ألقيت في مؤسسة الامام علي – لندن في 13 رمضان 1445 هج المصادف 24 آذار 2024”