ما هي هوية أو كينونة الإنسان الوجودية؟*
الدكتور جعفر عباس حاجي
- كلمة ألقيت في مؤسسة الابرار الاسلامية بتاريخ 16 نوفمبر 2023.
المقصود من هوية أو كينونة الإنسان الوجودية هو الصورة الحقيقية والماهية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحجرية والنباتية والحيوانية من جهة، وتمييزها عن الكائنات الإنسانية بعضها ببعض. وغاية المحاضرة ليست البحث عن إجابات لسؤال ماهية وحقيقة وكينونة الإنسان الوجودية، بل الغرض منها هو إثارة وتثوير وتأجيج وتحبيب وترغيب وتحريض الكائن الإنسان لطرح تساؤلات، بل طرح إشكالات وظنون وشك حول كينونة الإنسان بغية التبحر والتعمق في أعماقها لاستخراج كنوزها النفسية. إذ مجرد طرح الأسئلة يشي بأنّ السائل عنده نصف الإجابة، لأنّ السؤال ما هو إلا إناء ووعاء لحفظ وجمع الجواب، كما أنّ لكل مظروف ظرفاً يحفظ ويحتوى على ذلك المظروف أو الرسالة. مشكلة البشرية هي إنها تبحث عن جواب من دون سؤال يوجه ويرشد ويحدد ويقوّم ويصحح ذلك الجواب.
– أما لماذا يستوجب على كل إنسان بذاته البحث والتعرف والإجابة عن السؤال المتعلق بكينونة وحقيقة وماهية الإنسان، نقول أولاً أنه مهما أُتي الفيلسوف، أو الفقيه، أو العارف، أو العالِم من علم ومعرفة لا يمكنه من التعرف على حقيقة كينونة الإنسان كما الإنسان نفسه يبحث عن الإجابة، إذ الأمر يتطلب التبحر والغوص في أعماق النفس الإنسانية، والإنسان هو الكائن الوحيد من بين الكائنات الذي يستطيع معرفة حقيقته وصورته الماهوية والوجودية. نعم الحق تعالى هو أقرب من الكائن الإنساني نفسه وأعلم منه، لأنه خالقه وبارئه ﴿ولقد خلقنا الإنسانَ ونعلم ما تُوسوس به نفسهُ ونحن أقرب إليه من حبلِ الوريد﴾، والإنسان المعصوم يستطيع أنْ يتعرّف على حقيقة الإنسان الغائبة عن نفسه، أو حينما يعرض الإنسان نفسه على القرآن الكريم ويستنطقه فيجيب على أسئلته الوجودية التي تكشف له حقيقته وماهيته.
– ولا نبالغ إنْ قلنا أنّ الإنسان خُلق ليسأل هذا السؤال من أنا؟ الذي بمقتضاه يتم تحديد بوصلة حياة الإنسان وميزان ومسطرة قياساته. وإنما بقية الأسئلة ما هي إلا مشتقات وتوابع وجزيئات وفروع لذلك السؤال الكبير أو الكبَّار.
– فالسؤال الأزلي الأبدي، ظاهرا، أو باطنا، أو مكشوفا، أو مكنونا، أو معروفا، أو غير معروف، أو مشعورا به أو لا مشعورا به، حاضرا أو غائبا….. وهذا السؤال قائم منذ أنْ كان الشيء صورة علمية لدى الحق تعالى، إلى أنْ ظهر هذا الإنسان ومر في العوالم المختلفة إلى عالم الطبيعة.
إذا سألنا أي كائن من حجر من الأحجار مَن أنت وما هي حقيقتك وذاتك وكينونتك الوجودية، لقال: عنصر من عناصر الطبيعة أو معدن من معادن الطبيعة، يمكن عالِم الجيولوجيا يساعدنا عن معرفة بعض معالم وظواهر حقيقة الحجر. ولكننا لو استنطقنا الحجر وجعلناه هو الذي يجيب على السؤال عن كينونته الحقيقة لكانت الإجابة أصح وأدق من عالِم الجيولوجيا، وهكذا لو سألنا البذور والنباتات أو الحيوانات أو الإنسان.
لذا إذا سألنا الكائن الإنساني من أنت؟ أو من أنتِ؟ أو من هو، أو من هي أو من نحن ومن هم؟ لا نجد هناك أحد من الكائنات أنْ يجيب على هذا السؤال وجودياً إلا الإنسان نفسه. ﴿بل الإنسانُ على نفسه بصيرةٌ ولو ألقى معاذيرهُ﴾. فإذا سألنا بذرة التفاح من أنتِ؟ لقالت أنّ حقيقتي الوجودية وماهيتي هي التفاح، وليس المشمش أو الجوز أو اللوز. وهكذا لو سألنا نطفة وحقيقة البقر أو الجمل أو الأسد لأجابت أنّ حقيقتي الوجودية وماهيتي هي البقر أو الجمل أو الأسد وليس غيرها.
– أما تعريفات حقيقة وكينونة الإنسان في الفلسفات والمذاهب الفكرية المختلفة:
– كائن أو حيوان ناطق.
– كائن مفكر مؤمن.
– كائن مائت.
– كائن ذو إرادة حرة.
– كائن تحكمه الأفكار والآراء اللاشعورية.
– كائن متكلم ذو لغة وتواصل اجتماعي. تتشكل وتتصورّنُ بصورة كل شيء ممكن. وحقيقته جامعة بأنْ يصبح أي شيء من عالم الطبيعة وعالم الملكوت.
– كائن خُلق على صورة الحق “خلق الله آدمَ على صورته”
– كائن حقيقته المادة متمثلة في أدوات وأساليب الإنتاج الاقتصادي.
– أو كأهل المنطق والمناطقة يعرفون ويميزون حقيقة الكائن الإنساني على أساس أنه: كائن حساس ومتحرك وناطق. أي يجمع هوية وخصائص وصفات الحجر والنبات والحيوان.
– الإنسان كائن تجلت فيه الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العليا. والكائن الذي انطوى فيه العالم الأكبر، والكائن الذي مرآة لظهور الصفات والأسماء الإلهية فيها. ﴿تُسبح له السموات السَّبعُ وإنْ من شيء إلا يُسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفورا.﴾ من شيء إلا يسبح وبأسمائك التي ملِئت أركان كل شيء.
السؤال: ماذا يريد كل كائن بشري أنْ يكتشف أو يتعرف على ذاته وكينونته الذاتية وحقيقته؟ أولاً نقول أنّ معرفة الذات وحقيقتها الوجودية تمكننا من معرق الحق والخالق والرب. “من عرف نفسه عرف ربه”، (ومن عرف ربه عرف نفسه) (ومن نسى الله فأنساه نفسه. ﴿نسوا اللهَ فأنساهم أنفسهم﴾. نقول لأنّ الله خلق الكون وما فيها من أجل هذا الكائن الإنساني؟ نقول أنّ الله خلق الإنسان لنفسه تعالى ونقول أنّ التعرف على ذوات وحقائق الأشياء والكائنات تمكننا من الاستفادة منها في تأسيس الروابط والعلائق التناسبية بين الإنسان وتلك الكائنات وكذلك تحسين وتنمية الشؤون الحياة المادية والروحانية للإنسان.
فعند معرفة حقيقة وماهية الشيء التي هي الأسماء الحسنى التي ملئت أركان كل شيء، وهي من متجليات الحق في الوجود، تمكننا من النظر والتعامل مع الحجر والنبات والحيوان والإنسان من خلال تلك الحقيقة الإلهية.
– كيف يتعرف الإنسان على حقيقته وكينونته الوجودية؟ يمكننا بيان ذلك أولاً بطرح سؤال مفاده كيف نتعرف ونتعامل مع كلام الله والقرآن الذي تنزل من الذات الإلهية إلى عالم الملكوت إلى عالم العقل، إلى عالم المثال والخيال، ثم إلى عالم الطبيعة، فكل عالِم بطن لما يأتي بعده. وهناك أكثر من 70 طبقة أو بطن للآيات القرآنية وكلمات الله التي منها الموجودات والكائنات من الحجر والنبات والحيوان والإنسان و …
من الشواهد والأدلة في عدم معرفة وتحقق كينونة الإنسان الوجودية وماهيتها وحقيقتها الجوهرية هي تلك التقلبات والانقلابات والانتقالات الأساسية الحاصلة لدى الإنسان، وسواء الرياضية، أو العلمية، أو الأخلاقية، أو الروحانية، وجميعها ناتجة من عدم علم ومعرفة الكائن الإنساني بماهيته وحقيقته وكينونته الوجودية، وإلا يكون ثابتاً ومتحققاً وجودياً ويكون ثابتاً غير متغيراً، إذ إنّ ما يعتقده بأنه كينونته وحقيقتها وماهيته هي ليست حقيقة واقعية، بل سَراب، وظلال، ووهم، وتوهم وظن وشك، وليست واقعية حقيقية حقة وصادقة. بل هي كالسراب ” ﴿والذين كفروا أعمالهم كسَراب بقِيعة يحسبُه الظمأنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْهُ شيئاً ووجد الله َ عندهُ فوفاه حسابه والله سريع الحساب﴾. ذلك لوجود ساتر وحجاب وفاصل وحاجز بين كينونته الذاتية الوجودية وحقيقته الواقعية الحقة. كما أنّ كانت هناك حاجز وساتر وحجاب بين حقيقة الجنين والباحث في حقيقة علم الأجنة الذي يكشف له ماهية وحقيقة الجنين في رحم أمه، أو الجنين في رحم الدنيا الذي هو ساتر وحجاب عن حقيقة صورته المثالية في عالم المثال والبرزخ، أو حقيقة الجنين في عالم العقل وعالم الملكوت الذي عالم البرزخ والمثال حجاب وساتر له. وللوصول إلى حقيقة كينونة وذات وماهية الجنين يتطلب رفع حاجب وساتر وحاجز عالم الدنيا الطبيعة، وعالم البرزخ والمثال والخيال، لنشاهد الحقيقة في عالم العقل والملكوت. وهذا الحجاب والساتر نتيجة لعدة أمور منها:
– إننا نيام: ” الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.
– إننا في غفلة: ﴿يا ويَلَنا قد كنا في غفلةٍ من هذا﴾.
– هذه الغفلة والنسيان والتمسك بظاهر الحياة أدى الأمر إلى: تغيير جذري في حياة الإنسان، وتغيير وتوجيه مؤشر بوصلة حياة الإنسان العلمية والوظيفية والمادية والمعنوية والروحانية، ولتغير ميزان ومعيار ومسطرة حياة الإنسان الدنيوية والأخروية.
– كوننا واقعين في فخاخ الجهل والاغترار والاختيال والافتخار والزهو والتعجب فيما نمارس من عبادات لا نعرف إلا مضامينها ومعارفها المفهومية الظاهرية بينما عن حقائقها الوجودية الجوهرية الباطنية في غفلة ونسيان.
– فخاخ العبادة والتعود الشكلاني من دون معرفة حقيقتها ومضامينها الظاهرية والباطنية الجوهرية الحقيقية. فعيش المؤمن أو المسلم في حالة يُصدق عليها أداء الواجب والتعود وممارسة العبادات من دون وعي وإدراك لمضامينها وحقائقها وجوهرها وكينونتها الوجودية، وبالتالي نكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين (ع) في وصيته لكميل ابن زياد:
– يا كميل لا تغتر بأقوام فيصلون ويَطِلون ويَصومون فيداومون ويتصدقون فيحسبون أنهم موفقون.
– وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء.
– يا كميل انظر فيم تصلي وعلام تصلي وإنْ لم يكن وجهه وحله فلا قبول.
– يا كميل ليس الشأنَ أنْ تصلي وتصوم وتتصدق، إنما الشأنَ أنْ تكون الصلاة فعلت بقلب نقي وعمل عند الله مرضي وخشوع سوي إبقاء للجِد فيها.
– كوننا نعلم ظاهراً من الحياة: ﴿يعلمون َ ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون﴾ أي لا يعلمون عن باطن الدنيا وهو الآخرة. أين نحن من حارثة بن مالك حينما سأله الرسول (ص) كيف أصبحت، فقال أصبحت وأنا موقناً، فقال له (ص) وما الدليل على هذا القول والادعاء قال أرى المعذَّبون في النار والمنعَّمون في الجنة الآن، فقال (ص) “عبدُ نوّراللهُ قلبه”.
– إذاً من أنت؟ وما هي حقيقتك وكينونتك الوجودية؟
– هل أنت مؤمن أم كافر، شقي أم سعيد، صادق أمين تقي ورع، أم منافق وكذاب ومخادع؟
– هل أنت نبيٌّ، أم رسول، أم وليٌّ، أم دجالٌ أو أبرهةٌ؟
– هل أنت مهندسٌ أم طبيب، أم فناناً، أم رسامٌ، أم موسيقار، أم فقيه، أم مفسر، أم فيلسوف أم متكلم أم عارف أم إنسان وجودي؟
– هل أنت إنسان، أم خنزير، أم قردة، أم كلب في صورة إنسان إنما حقيقتك خنزير وقردة وكلب وذئب أو … تشير الرواية عن الإمام السجاد وهو يطوف حول الكعبة مع بعض أصحابه إذ يسأله (ع) أحدهم ما أكثر الحجيج هذه السنة فيجيب الإمام السجاد (ع) “ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج، وهؤلاء هم مؤمنون ومسلمون يصلّون ويصومون ويجاهدون و … ولكن التزاماتهم فقهية وليست وجودية. لذلك رفع الإمام السجاد أصبعيه وقال له أنظر من خلالهما فإذا يشاهد خنازير وقردة بين الجموع من الذين يطفون حول الكعبة.
ففي أصول الكافي للكليني رحمة الله عليه عن أبي نصير عن الإمام الصادق (ع) الله يحشر الناس على نياتهم.
وفي الحديث النبوي الشريف يُحشر الناس عشرةُ أصناف من أمتي قد ميّزهم الله من المسلمين، وبدّل صورهم، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعظهم منكسون أرجلهم من فوق ووجوههم من تحت، ثم يسحبون عليها، وبعضهم عُميٌ، وبعضهم صمٌّ بكمٌ لا يعقلون، وبعضهم أشد نتِناً من الجيف….. وربما الأقوام القديمة التي مُسخت مثال لحال حقيقتهم وكينونتهم الباطنية. وذلك من شدة سلطنة وطغيان الحالة الكلابية والخنزيرية والقردية والسُبعية والوحشية إلى درجة ظهرت بواطنهم الحقيقة واختفت صورتهم الظاهرية.
– كيفية معرفة حقيقة وهوية كينونة الإنسان الوجودية؟
– معرفة الإنسان لهويته وماهيته في غاية الصعوبة والدقة وتتطلب جهوداً متميزة وخاصة، والإنسان مهما أُتي من قوة وقدرة وحده غير قادر على معرفة وتحديد هويته وكينونته الوجودية إلا بمعية ورعاية ولطف وعناية إلهية، من جهة، سواء مباشرة أو عن طريق الوحي والكتب السماوية، وتحت رعاية وعناية واهتمام الأنبياء والمرسلين والأولياء أو الأستاذ والمدرب والمرشد. ومن أهم الطرق والسبل لذلك هي:
أ- التجربة العلمية للجوانب والأمور المتعلقة بالأمور المادية والحسية الملموسة. يعني لو أردنا معرفة هوية وماهية الجنين في رحم الأم، هل هو ذكر أم أنثى؟ أبيض اللون أم أسود؟ هل الجنين مُعاق أو سليم؟ هل طويل أم قصير؟ وما هي شكل، ولون الشعر، والعيون، والبشرة؟ هل يعيش عمراً مديداً أم قصيرا؟ هل له من المهارات والإمكانات والاستعدادات البدنية ليكون رياضياُ ولاعباً لكرة القدم، أم السلة، أم اليد، أم المصارعة، أم السباحة، أم الطائرة أم ….
ب- التجربة الوجودانية أو الوجودية والوجدانية للجوانب والأمور المعنوية والأخلاقية، والعقلية، والروحانية، والعلمية. هل ماهيته وكينونته وحقيقته تمكنه وتؤهله ليكون عالماً رياضياً أم فيزيائياً أم مهندساً، أم فناناً، أم رساماً أم موسيقاراً أم فقهياً أم مفسراً أم فيلسوفاً أم متكلماً أم عارفاً أم إنساناً وجودياً؟
ج- الرياضات المعنوية والروحانية من خلال: التفكر والتأمل والذكر، والسهر، والصمت والجوع، والصبر.
د- من خلال عرض الإنسان ذاته وكينونته على الآيات القرآنية والروايات الشريفة. إذ القرآن فيه ذكركم، وهذه الآيات هي مرآة تعكس ذات وكينونة الإنسان. كما أنّ الأحكام الشرعية والشريعة ما هي إلا انعكاسا وتعبيراً وبياناً لحالات ومقامات كينونة وذان النبي (ص) الوجودية.
- عرض الإنسان ذاته وكينونته وماهيته على أهل البيت (ع) وفي يومنا الحالي على الحجة (عج) أو على ولي الفقيه ولي أمر المؤمنين من خلال التبصر والتأمل في ذاته والتي تنكشف وتظهر لنا من خلال سلوكياته وأحواله ومواقفه ومعارفه وأقواله وكلماته، وأنْ نجعلها معياراً وميزاناً وبوصلةً ومسطرةً لنا في الحياة. إذاً من خلال القرآن الثقل الأول ومن خلال أهل البيت (ع) والأولياء والتابعين لهم الثقل الثاني اللذان لن يفترقا أبداً. إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا أبداً. كما أنّ عالم الكيمياء والفيزياء والأحياء ينظر وتنكشف له حقيقة الماء أو العنصر الفلاني أو البذرة المعينة. إذا هذه الأمور والكائنات الطبيعية وكل ما هو في الكون حقيقتها وجوهرها الأصلاني هو الأسماء الحسنى والصفات العليا، ﴿يسبح لله ما في السموات والأرض، وإنْ من شيء إلا تُسبح ُ له السموات والأرض ومن فيهِنَّ وإنْ من شيء إلا يُسبح بحمده، ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُم إنّه كان حليماً غفوراً﴾ ﴿سنُريهِم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهِم حتى يتبين لهُم أنَّه الحقُّ﴾ نحتاج إلى مرآتين، مرآة ننظر من خلالها الكائنات والأشياء الطبيعية المادية، وإلى مِرآة ننظر من خلالها أنفسنا وقلوبنا.
هـ التجرد: إنّ الحقائق والمعاني الكلية لا تنكشف لنا إلا من خلال التجرد من المادة والصورة: كل ما هو موجود في عالم الطبيعة لا صورة مثالية خيالية في عالم المثال والبرزخ، كما أنّ كل ما هو موجود من الأبنية والقصور موجودة في صورتها العلمية في عالم المثال أو الذهن لدى المهندس المعماري، أو كل ما هو موجود من اللوحات الفنية في الواقع الخارجي لها صورة علمية مثالية خيالية في ذهن ونفس الفنان أو الرسام. فمن خلال الاتصال والتواصل مع عالم الخيال والمثال يستطيع الإنسان أنْ يتعرف على هويته وحقيقته وكينونته الفنية والمعمارية على سبيل المثال. وكل ما هو موجود في عالم المثال والخيال والبرزخ له حقيقة ملكوتية في عالم الملكوت والعقل.
خلاصة الكلام هناك ثلاث نظريات يمكن بموجبها تفسير وبيان كيفية تحقق ماهية وكينونة الإنسان الحقيقية، وهي:
أ: الهوية والحقيقة للأشياء موجودة ومختارة بوعي وإدراك وحرية الشيء في عالم العقل والصورة العلمية له. (الشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه). فأختار لنفسه هوية وماهية في عالم الذر أو عالم ألست ﴿ألست بربكم قالوا بلا﴾. الجنين في رحم أمه، هل هو ذكر أم أنثى، هل لونه أسمر أم ابيض، أو سالم ومعافٍ أم أنه معاق وعليل،…. والجنين في رحم الطبيعة، والجنين في عالم ورحم البرزخ أو الخيال والمثال، والجنين في عالم أو رحم العقل والملكوت، والجنين في حالة صورته العلمية لدى الحق تعالى.
اللاعب في بطن ورحم أمه. هل هو رياضي في كرة القدم أو السلة، أو… هل هو مفسر أم فقيه، أم فيلسوف، أم رسام، أم فنان، أم هو ممثل، أم شاعر، هل هو عالم رياضيات أم مهندس، أم فيزيائي، أم …..
ب: إن ماهية وحقيقة الإنسان يؤسسها الشيء أو الكائن الإنساني في مسيرته وهو يُولد صفحة بيضاء. ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون﴾ سورة النحل آية 78.
– خُلق الإنسان وعنده الاستعداد والقابلية لأنْ يصبح أي شيء.