فلسفة الغـياب والشهادة في الفكر الإسلامي
ندوة الخميس 17 اكتوبر 2024 في مؤسسة الابرار الاسلامية
فلسفة الغـياب والشهادة في الفكر الإسلامي
الاستاذ أبوذر الصغير
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون)
هذه معادلة ربانية كيف نفسرها وكيف نسير عليها؟ ساتحدث عن الموضوع من خلال هذه الآية.
هناك موت وهناك حياة. هناك حضور وهناك غياب. ليس كل حاضر غائبا وليس كل غائب حاضرا.
كثير ممن يموت ينتهي لانه لم يترك شيئا، وقسم آخر: علو في الحياة وفي الممات. فهو شخص ترنو له الاشخاص في حياته وفي موته يكون حضوره اقوى.
لو ناخذ الامام الحسين عليه السلام مثالا، هل نأخذه حاكما ام شهيدا؟ ايهما أكبر في التاريخ؟ لانه لم يكن على حافة الزمن، بل اخترق واحتوى الزمن. لذلك كلما تقدم الزمن ظهر الحسين أكثر.
نظرية الغياب: مفاعيله اشد من مفاعيل الحضور أحيانا، لان الغائب لم يستشهد لنزوة شخصية او معان ذاتية او قضايا اسرية او قومية او لدين، بل استشهد لخليفة ولأمة.
الغريب في الثوار ان الامام الحسين عليه السلام كان لا يبغض حتى اعداءه. لم تكن مهمته القتل، بل كانت مهمته تبليغ ما اراد الله، فهو مأمور ان يصل بهذه الخليقة الى المسار الصحيح الذي لا يصل اليه من خلال الحقد والدم والقتل بل من خلال المحبة الالهية.
تجد هذا المعنى عند السيد المسيح عليه السلام الذي قال: “أحبّوا أعداءكم”. حين تحب أعداءك لم تخرج عن مفاهيم الدين او الانسانية، بينما عندما توغل في القتل تكون على حافة الزمن. اما حين يأتيك شخص متوتر فهو يقتل باسم الدين بدون حساب. المجاهد الذي لا يبغض عدوه هو المجاهد الصحيح. اما الذي يأتي وهو يبغض عدوه فقد يكون لديه حقد ذاتي، فهو يحوّط الشهادة بالدماء والمنفعة، فهو يبحث عن حورية وعشاء مع الرسول، بينما العقيلة زينب عليها السلام تقول: ان كان هذا يرضيك فخذ ما يرضيك، فالتوسل الى الله يكون من خلال الامام الحسين عليه السلام الذي بكى على اعدائه. اما الآخر فلديه قضايا ثأر.
الهدف الاسمى هو الله والبشرية وليس ان تنحر نفسك فحسب. هؤلاء الذين نحروا انفسهم على بوابات العراق والشام وليبيا كلهم اختفوا، كانوا محملين بالحقد. عملية الحقد كان فيها توزيع طائفي او ديني. حينما جد الجد والاتجاه الى الله ضاعت البوصلة لديه. كان القتال آنذاك بناء على فتاوى، وسرعان ما غابت تلك الفتاوى لغياب الحاجة اليها.
هزيمة كاملة خير من نصف انتصار، لان نصف الانتصار يضيّع السيئات وتتغنى بالنصف الآخر، اما الهزيمة الكاملة فتحدث لك خضة كاملة. نصف الانتصار كان في 1973، اما الآن فهو هزيمة كاملة للانظمة، وهذا سيحث انفجارا هائلا في الأمة، لانها لا تقبل الضيم بهذه الاهانة، الدماء تسيل انهارا ولا يهتمون لها. انصاف الانتصارات تغير وجه التاريخ. لولا ان يزيد أوغل في الايذاء لما خرج الامام الحسين عليه السلام.
مبررات الخروج يضعها الآخر لك اذا كنت تتحرك وفق المنطق الالهي. اذا كنت تفكر دائما بمنطق الجنة والنار فهذا خطأ. الامام علي عليه السلام قال: “الهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك , لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك .”
اذا وصلت مرحلة تتألم فيها لألم الامة، حين تتألم لجوع الجائع وألم المريض وتجد لذتك ان تساعد المريض وتشبع الجائع فانك لا تفكر في ما تملكه. المدى الفكري لديك يتجاوز الزمان والمكان. فانت تشبع حين يشبع الجائع وتأنس حين يشفى المريض وحين تقضي حاجة المحتاج حتى لو لم تكن لديك اموال تستطيع ان تجمع المساعدات. هنا يبدو التجلي الالهي والنظرية الكونية.
حين تصل هذه المرحلة لا يبقى لديك جهد للهمز واللمز بل رجعت لاصلك الالهي.
حين تتخلى عن نظرة البغض والكره سيجري النصر على يديك.
انت جزء من حركة الكون وجزء من مخلوقات الله فيكون لك دور في الادارة الكونية.
هنا تبرز عظمة القائد في ما اذا كان حاضرا او غائبا، اي ان القائد يشكل النص، فترى القائد بمثابة النص الذي لا يتعبك في فهمه واستدراج المعاني منه.
حين نقرأ آية قرآنية، ندرس النص وخالق النص، ولكن حين يكون القائد مثلك الاعلى وتتلمس فيه ملامح الله، يكون هو النص لك، فسلوكه يمثل لك النموذج الاعلى، وهذا يعني تخطي الزمان والمكان، فتشكر الله انك تعيش في زمن قائد كهذا لان الله من عليك بشخص من الناس له وزنه الالهي بحيث تهواه القلوب. فهو لا ينتمي لدين ولا لطائفة ولا لمذهب، بل اتصل بالله مباشرة.
حينما كان يتكلم القائد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس يجلس العامي والفلاح كلهم في مستوى واحد لسماع الخطاب. هنا يظهر التأييد الالهي، وتعرف ان هذا النوع من الرجال وظفوا قدراتهم وشخصيتهم ومقاماتهم لخدمة الانسانية وليس لخدمة فئة او مجموعة. بلغ النقاش ان يقول احد: هل يجوز قراءة الفاتحة على روحه؟ اذا وصلت الى هذا المستوى فعليك ان تقرأ سيرة ابي سفيان وما فعله قبل إسلامه.
هناك نظرية العقل والنقل. هنا تظهر نظرية أن النقل يخدم العقل، والعقل في خدمة النقل المبدأ الذي أسسه الامام الشافعي.
ظهرت نظرية ان القرآن في خدمة الحديث، ولذلك كثر الحديث عن اسباب النزول والحديث عن الناسخ والمنسوخ. حين تكون الامور بهذه العقلية يصبح الترحم على سيد الدنيا حراما، لان فلانا روى عن فلان ان امتي تفترق 73 فرقة، تتعبد الى الله بهذه الاقاويل لا الوم هذا الشخص البسيط. من هنا استبيح الاسلام قبل ان يستباح الافراد. الغائبون من هم؟ هم الذين يشتغلون لانفسهم.
الحكام مثلا: نعرف سطوة صدام ومن قبله كانت سطوة مرعبة، انه اشتغل على حافات الزمن، على الذات وعلى القرية والقبيلة. حين تريد ان تكون صانعا للتاريخ، فلا تسير على خطى الطغاة. اذا سرت على هدي صدام فانك تصبح تابعا ولا تكون نموذجا، فمهمتك تنتهي بسقوط النظام، بينما يفترض ان تبدأ مهمتك بسقوك النظام. هؤلاء حضورهم غياب. لا يستطيع احدهم الخروج بمفرده الى الشارع لانه سيحاسب. يصبح حضوره كالموت، ولكن الموت ارحم له، فاذا مات فهو ميت في الدنيا وفي الآخرة. اما القائد فهو ينظر الى خلق الله وعلاقته المباشرة بالله.
احث دائما على زيارة المقابر، حتى لو لم يكونوا مسلمين. حرّموا علينا ان نترحم على الموتى من الطرف الآخر. هذه الحالة حالة تفرّدية لمن يتبع المنهج الحديثي، اما حين تزاوج بين المفهوم القرآني وقيمته الحقيقية ومفهوم الحديث الصحيح الذي هو امتداد للآية القرآنية وليس العكس. الرسول (ص) مسؤول عن عالم وعن خليقة كاملة لانه خاتم الانبياء.
هذه المفاهيم كيف تجسدها؟ ليس من خلال 73 فرقة وليس من خلال التنابز بالالقاب (شيعي وسني وشافعي). حين تستمر المذاهب على حالها وتستمر على هذه الدورة الدموية في العقل ستنقل هذا العصر الى سنة 3000 ميلادية. القائد وان غاب تبقى روحه موجودة لانه تشرّب بالآخرين لم يتشرب السني او الشيعي او المسيحي بل بخلق الله. حين يتشرب بخلق الله يصبح هو النص الذي تبحث عنه طوال عمرك، يغنيك عن تفسير قرآني. تجده يعامل الناس كأسنان المشط.
نيلسون مانديلا عاش سجينا واصبح حاكما فقيرا، فاصبح أنموذجا لانه لم يجعل الاموال همه في الحياة، بل جعل همه رفع مستوى الفقير.
هوشي منه كان يعيش في منزل متواضع وحرّر شعوبا ما بين الخمسينات والسبعينات. كانت لديه صالة يستقبل الناس فيها وغرفة نوم. كان يعتبر نفسه مخلّصا للمظلومين والفقراء. حين جاءه الموقع لم يستغله، بل وظف الكاريزما لخدمة شعبه. لماذا تحب مانديلا؟ تميل له لان نزعته انسانية. النزعة الانسانية هي القدر الجامع بينك والآخرين. فكيف تفرض نفسك قائدا على الآخرين؟
كانوا يقولون: المواطن الجيد هو البعثي الجيد. كانت الخدمة من اجل رجل عاش على حافة الزمن مستعينا بمجموعة من المطبّلين.
الامام علي عليه السلام لم يكن مهتما بمن يمدحونه، ومن يذمه. في مجلس الكوفة كان عبد الله بن الكوا جالسا، فقال للامام عليه السلام: كافر ما افقهه. قام الناس له. الامام علي عليه السلام احب البشرية فأحبته، “أنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب، فعفوت عنه”. نرى الانسانية عند الامام علي عليه السلام لم يكن من الشيعة او السنة بل من المسيحيين.
لم يكن هناك مغريات للكتابة عن الامام علي عليه السلام بل كانت هناك مبررات انسانية. لم يكتبوا عن الامام علي عليه السلام كخليفة بل عن ثقافة وقيمة حضارية وعن انسان يخترق الحجب من الزمن.
الثائرون يبقون مستمرين لانهم تخطوا مرحلة الذات الى مرحلة التخلق بخلق الله، ان يحبوا المجموع بغض النظر عن صفات المجموع.
القادة عرفوا ان مقاييس الجنة والنار ليست بايديهم بل بايدي الله. هؤلاء عرفوا الله حق قدره، فلا يستطيع الواحد منهم ان يحدد من هو في النار ومن هو في الجنة، من يفعل ذلك لا يعرف نفسه هل في الجنة ام النار؟
حين يبتعد القائد الرمز عن تقسيم الجنة والنار للناس، وحين يبتعد عن مقاييس الكره والبغض للبشرية يتميز بجزء من خلق الله فتصبح نفسه مطمئنة. يحب الناس ويفرح بفرحهم ويشبع مع الجائع.
مفهوم الحضور والغياب قائم على مدى الاتصال بالله.
مفهوم الحجة وغيابه له خطان:
مفهوم الحجة بالنظرية السلبية يعني عدم وجود حاجة لغيابه. هذا انتظار سلبي، اما الانتظار الايجابي فيتمثل بحضور الفقيه وولايته