د. سعيد الشهابي: قوى الثورة المضادة تستهدف آخر تجليات الربيع العربي
لم تستغرق ثورات الربيع عندما انطلقت في العام 2011 سوى بضعة شهور قبل أن يتم إخمادها بالقمع والتآمر والتخطيط المضاد والتحالفات غير المقدسة حتى مع أعداء الأمة ومحتلي أراضيها. الثورة المضادة لم تتوقف طوال عقد كامل. وهذا يكشف عمق العداء لدى أطراف إقليمية ودولية لتطلعات شعوب المنطقة والاستعداد لمنع تحققها بأية وسيلة. فلم يكن الانقلاب الذي حدث الاسبوع الماضي في تونس الا الحلقة الاخيرة في مسلسل مشروع تحالف قوى الثورة المضادة الذي يضم الإمارات ومصر والسعودية وحكام البحرين بالأضافة للكيان الإسرائيلي. في البداية كانت الرياض في مقدمة القوى المناهضة للربيع العربي، ولكن سرعان ما سبقتها الإمارات وتصدرت المشهد الذي كان تصور حدوثه قبل الربيع العربي شبه مستحيل. فهل هذا الحماس للانقضاض على الشعوب وتطلعاتها التحررية والديمقراطية عفوي ام ضمن خطط انطلقت بعد أسابيع من اندلاع النيران التي اشعلها الحريق الذي التهم جسد المواطن التونسي محمد بوعزيزي بمدينة سيدي بوزيد في 16 ديسمبر 2010؟ أهو درس للشعوب بان قمع الثورات لم يكن كافيا بل أن أية نتائج إيجابية تمخضت عنها في أي بلد سيتم اقتلاعها ايضا؟ أهو رسالة للعالم العربي بان البلد الوحيد الذي شهد تحولا ديمقراطيا محدودا أتاح للإسلاميين المشاركة لن يسلم من معول الهدم الذي تستخدمه الثورة المضادة للاجهاز على تجربته؟ أهو تذكير من حكام أبوظبي بان التحالف السباعي الذي تأسس في مثل هذه الاسابيع قبل خمسين عاما لديه مطامع سياسية وتوسعية تفوق ما لدى أية قوة إقليمية اخرى وانه بصدد الاحتفاء بذكرى تأسيسه بإعلان نفسه حاكما ليس على منطقة الخليج أو الشرق الاوسط فحسب بل في الشمال الافريقي ايضا؟ أهو تذكير بالتحولات التي شهدتها المنطقة في الاعوام الاخيرة وفي مقدمتها إعادة تشكيل التحالفات بعد انطلاق قطار التطبيع مع الاحتلال؟
ربما يدعي البعض انه كان يتوقع ما حدث في تونس بعد إعلان رئيسها، قيس سعيّد قراره حل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء ووزيري العدل والدفاع. ولكن الحقيقة أن ما حدث كان خارج التوقعات العقلائية خصوصا في بلد أصر زعماؤه على التباهي بـ “نجاح” ثورة شعبهم وانهم يحكمون بلدا “ديمقراطيا” يسمح بالحريات العامة ويتمتع بقراراته السيادية التي ربما تحركت احيانا باتجاه مضاد للسياق الذي فرضته ظاهرة التطبيع التي تصدرتها دولة الإمارات وحكام البحرين. يضاف الى ذلك أن البعد الإماراتي في الانقلاب التونسي كان واضحا، وانه مدعوم من القوى المنضوية في تحالف الثورة المضادة، ومنها مصر و “إسرائيل” وحكام البحرين. ومنذ قيام الثورة كانت هناك حالة من الاستقطاب السياسي في العالم العربي، وكان لقناة “الجزيرة” دور في دعم الحراكات السياسية، الأمر الذي أزعج قوى الثورة المضادة. وبعد حدوث التغيير في تونس بإزاحة الرئيس السابق، زين العابدين بن علي ونفيه الى تونس، كانت قطر من داعمي التحول السياسي في تونس ومصر على وجه التحديد. وعلى النقيض كان موقف الإمارات مضادا للحراكات الشعبية ومصرا على الإبقاء على الأوضاع الراهنة. فكان تدخلها العسكري، مع السعودية، في البحرين لمنع حدوث التغيير. وبعد عامين دعمت الإمارات الانقلاب العسكري على مصر وإسقاط دور جماعة الإخوان المسلمين ثم إزاحة الرئيس المنتخب، محمد مرسي. هذا الدور الإماراتي استند لدعم إسرائيلي قوي لأسباب عديدة. ومن هذه الأسباب أن الوضع التونسي الجديد الذي انتشرت فيه الحريات على نطاق واسع كان داعما للفلسطينيين ومعارضا للاحتلال. وهذا درس بليغ أكد لقوى الثورة المضادة أن أي تحول ديمقراطي سوف يكشف حقيقة مواقف الشعوب العربية الرافضة للاحتلال، الأمر الذي سيزيد الأمور تعقيدا بالنسبة للكيان الإسرائيلي وداعميه. وبعد أن قررت الإمارات سياساتها الجديدة المؤسسة على التطبيع مع “إسرائيل” أصبحت تسعى لحماية تلك السياسة بتهميش التوجهات الشعبية إعلاميا وسياسيا وأمنيا. ولذلك لم يعد خافيا دور كل من “إسرائيل” ومصر في الانقلاب التونسي الاخير.
هناك إذن أبعاد متداخلة دفعت لهذا الانقلاب. اولها: كما قيل سابقا، فإن الحريات العامة اذا أتيحت للشعوب العربية فسيكون هناك إجماع على رفض الاحتلال الإسرائيلي ودعم الشعب الفلسطيني. وهذا أمر لا يريده المحتلون أو داعموهم الغربيون، أو حلفاؤهم الإقليميون. الثاني: أن حالة الاستقطاب السياسي والايديولوجي في المنطقة جعلت استهداف ظاهرة “الإسلام السياسي” اولوية لدى تحالف الثورة المضادة. فقد استهدف الإسلاميون في أغلب البلدان العربية. وما حدث في مصر قبل ثمانية أعوام من استهداف جماعة الإخوان المسلمين يؤكد هذا التوجه. ولم يشفع للجماعة جنوح بعض فصائلها للتماهي مع رغبات بعض الانظمة. كما لم تستفد كثيرا من انتهاجها سياسات “معتدلة” أدت أحيانا للتخلي عن بعض الثوابت. فاذا كانت حركة النهضة التونسية تعتقد أن “اعتدالها” سيوفر لها حماية خاصة فقد أثبت الانقلاب الاخير عدم دقة ذلك الاعتقاد. فأعداء المشروع الإسلامي السياسي يستهدفون بلا هوادة كافة مصاديقه وتجلياته، سواء ما كان “متشددا” منها وما كان “معتدلا”. نعم هناك فرق في طريقة التعامل مع هذه التجليات، ولكن ليس في الهدف النهائي باقتلاعها من الحياة العامة. فالسجون تكتظ بطلاب الحرية والإسلاميين في البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي. وتمثل الحالة المصرية ذروة القسوة في التعامل مع الإسلاميين، حيث الاعتقالات الجماعية والتعذيب والاعدامات. وهناك الآن قرار من الحكم العسكري بتنفيذ حكم الإعدام بحق اثني عشر شخصا من الإخوان في القضية المعروفة إعلاميا بـ”فض اعتصام رابعة”. فقبل أيام أعلنت محكمة النقض، أعلى محكمة طعون بالبلاد، تأييد حكم أولي صدر في سبتمبر/ أيلول 2018، بإعدام 12 شخصا بينهم قياديون بالجماعة هم محمد البلتاجي، وعبد الرحمن البر، وأحمد عارف، والوزير السابق أسامة ياسين. الثالث: أن توفير أجواء الحرية للشعوب سيؤدي لمناخات سياسية مختلفة تماما، وسيعيد السيادة للشعوب والحيوية لقضية فلسطين في الوجدان الشعبي، الأمر الذي تعمل قوى الثورة المضادة بقوة لمنع حدوثه. فلو كانت الحريات العامة متاحة في الإمارات والبحرين مثلا لما استطاع الحاكمون الهرولة للتطبيع مع قوات الاحتلال. وقد انصبت الدبلوماسية الجديدة التي تمارسها قوى الثورة المضادة على فرض واقع جديد يجعل “إسرائيل” دولة إقليمية تشارك في صنع قرارات المنطقة، الأمر الذي لن يتحقق في ظل قيام منظومات ديمقراطية تسمح بالحريات العامة. ومن بين أسباب التدخل الإماراتي لدعم الانقلاب التونسي على الديمقراطية التظاهرات والاحتجاجات والتصريحات التي حدثت في تونس بعد إقدام حكام الإمارات والبحرين على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وهنا جاء القرار بالتخلص من هذه “الديمقراطية“.
من المؤكد وجود عوامل محلية سلبية ساهمت في قرار الانقلاب على الديمقراطية. وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية المتداعية. وقد أصبحت سياسة التجويع من بين أهم أساليب قوى الثورة المضادة للضغوط على الانظمة التي تتوفر على مستوى من الممارسة الديمقراطية أو الرافضة للاحتلال. فهذا ما يحدث في لبنان اليوم. فقد توقف الدعم المالي الذي كانت دول الخليج تقدمه لهذه البلدان، فنجم عن ذلك اقتراب الحكومات من حالة الإفلاس. وساهمت جائحة كورونا في تكثيف الضغوط الاقتصادية على هذه الحكومات، فأصبحت شعوبها تئن تحت وطأة الضغط الاقتصادي والصحي. ومع أن الرئيس قيس سعيّد دعم موقفه بالمادة 80 من الدستور لتجميد عمل الحكومة لمدة ثلاثين يوما، فثمة توقع بتأجيل عودة الحياة الى وضعها الطبيعي في المستقبل المنظور. وستبقى حركة النهضة محاصرة بقرارات الرئيس الذي لا يستبعد أن يقوم بتسليم السلطة كاملة للجيش. إن سياسة التجويع أسلوب قديم يتجدد دائما. وهذا ما حدث للسودان ايضا. فكانت أوضاعه الاقتصادية المتداعية من الأسباب التي دفعت الإمارات لمساعدته ماليا في مقابل دفعه للتطبيع مع الاحتلال. كما يتعرض العراق لشيء من الابتزاز الهادف لجره نحو مشاريع التطبيع. هذا مع أن العراق من أغنى الدول العربية، ولديه ثروة نفطية عملاقة، وقدرات زراعية وتصنيعية هائلة وإمكانات بشرية كبرى. هذه السياسة ليست جديدة. فقد مورست منذ قرابة العقدين مع الفلسطينيين، وما يزال قطاع غزة يعاني من حصار جائر يهدف لتجويع أهلها، ومن ثم استخدام ذلك التجويع لتحريضهم للثورة على حركة “حماس”. هذه الحركة يعتبرها تحالف الثورة المضادة أحد تجليات الإسلام السياسي نظرا لانتمائها التاريخي لحركة الإخوان المسلمين.
إن ما وقع في تونس لا يمكن استيعابه إلا ضمن مشروع قوى الثورة المضادة التي انقضت على الشعوب وانتقمت منها بعد مشاركتها في ثورات الربيع العربي قبل عشرة اعوام. وقد لعب الرئيس التونسي دورا مخزيا بإقدامه على الاجراءات التي اتخذها ومنها تجميد البرلمان وإقالة رئيس الوزراء ووزيرين آخرين. ويتطلب التصدي للانقلاب الذي نفذته قوى الثورة المضادة عملا نوعيا يهدف للضغط الدولي على الرئيس والقوات المسلحة وتهديدهم بالحصار الاقتصادي والمقاطعة الدبلوماسية حتى عودة الحياة الديمقراطية وانتهاء حالة الطواريء التي فرضها الرئيس بدعم العسكر. وما لم يحدث ذلك فليس مستبعدا أن تشهد تونس تراجعا أمنيا وسياسيا خطيرا يضع البلاد على حافة الحرب الأهلية، وهو ما لا يريده الشعب أو الأحزاب السياسية وفي مقدمتها حركة النهضة ومنظمات المجتمع المدني.