“الدبلوماسية العلميّة”: تميّز عربيّ نادر

المؤلف ثائر طاهر الفوادي
يتناول المؤلف الفوادي دبلوماسيّة العلم للحضارة العربيّة الإسلاميّة وأثرها في الحضارة العالمية، وكيف مثّلت الحضارة العربية حلقة الوصل بين الحضارات القديمة والحضارة الحديثة.
في العلوم السياسيّة يتم التعاون من أجل تحقيق فائدتين إمّا الحصول على المكاسب الناتجة من التعاون وزيادة المنافع، أو التعاون من أجل التقليل من الآثار الجانبيّة السلبيّة للتهديدات والمخاطر.
لكن كان درس وباء “كوفيد-19” درساً حاسماً في العلاقات الدوليّة، وخصوصاً أنّ الفاعل الجديد (الفيروس) لا يحترم الحدود. فالجائحة بعثت إشارات إيجابيّة لتعزيز التعاون الدولي، وإنّ الكوارث المقبلة مثل تأثيرات تغيّر المناخ، أو تنبؤات علماء الأوبئة بجائحة أسوأ تضفي مصداقيّة على الدعوات الدوليّة لتفعيل الأطر الدبلوماسيّة للتعاون الدولي. يبدو أنّ تلك المهمة شبه مستحيلة في ظل ضعف التعدّديّة والتنافس المتزايد بين القوى الكبرى، كما وأنّ بوصلة التعاون تشير إلى أنّ القيم الليبراليّة غير قابلة للصمود أمام حجم المشاكل الدوليّة، مروراً بالارتداد العكسي للعولمة، والسياسات الصناعيّة والإفراط في توظيف القضايا العلميّة بما فيها الصحيّة قبل الوباء. وأننا أمام حرب باردة تكنولوجيّة لتسريع الابتكار والتسابق في ميدان الذكاء الصناعي وغيره.
إنّ أيّ مراجعة لمساحات سلام أو اتّفاق دولي ستعثر فيها على اندماج أو حوار بسيط أو مشاركة بين معادلة (دبلوماسي–عالم). صنعت هذه المعادلة الجديدة مثلاً في موضوع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة ( 5+1) عام 2015، عبر علاقة وزير الطاقة الأميركي إرنست مونيز، وهو عالم فيزيائي نووي، مع رئيس منظمة الطاقة الإيراني الدكتور علي أكبر صالحي، حيث كان مونيز رئيساً لقسم الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سابقاً، كما كان يعمل عن كثب مع قسم الهندسة النوويّة هناك.
إنّه أوّل كتاب عربي من نوعه في مجال تخصّص يتناول موضوع الدبلوماسيّة العلميّة، فهو يملأ فراغاً كبيراً في المكتبة العربيّة، وبكل واقعية ينطلق المؤلف بحثاً عن قيود ترهن هذا الاندماج في البحث عن منافع للبشريّة بدل أن يكون مدمّراً وكارثياً كما يعتقد الدبلوماسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر بشأن الصراع بين الولايات المتحدة الأميركيّة والصين الشعبية.
فهو يرى أنّ كلا البلدين لديه القدرة على تدمير العالم، عندما يدخلان في صراع، وخصوصاً أنّه لا توجد أي قيود في استخدام التكنولوجيا، عبر التقنيّات الجديدة التي تنتج سلعاً وأدوات نستخدمها في حياتنا اليومية أو تدخل في عمل المصانع والجيوش والمختبرات. ولكن إمكاناتها الحقيقيّة تكمن في الدور السياسي أو الدولي الذي يمكن أن تؤدّيه كل منهما، حيث تتحوّل التكنولوجيا والعلوم المعرفية كسلعة وتقنية، ولكنها ليست واعية لاحتمالاتها السياسية، والتي تشكّل جزءاً من الصراع المقبل.
الدبلوماسيّة والعلم والتكنولوجيا: الإطار المفاهيمي
حمل الفصل الأول من الكتاب عنوان (الدبلوماسيّة والعلم والتكنولوجيا: الإطار المفاهيمي)، متناولاً هدف الرسالة الدبلوماسيّة في المجتمعات، والتفصيل في العلم والتكنولوجيا كمتلازمات مجتمع المعرفة، ويقدّم تساؤلات حول إمكانية أن يكون العالِم دبلوماسياً أم الدبلوماسي عالماً؟، وهل العلم والدبلوماسيّة عالَمان متباعدان أم متكاملان؟
وقدّم هنا المؤلف مساحة نظريّة مهمة حول الدبلوماسيّة العلميّة، ولا سيما أنّ معظم الكتابات التي تتحدث عن الدبلوماسيّة ومساراتها لا تخرج كثيراً عن رؤية الدبلوماسيّة بأنها نهج أحادي يتبع اتفاقيّة فيينا والبروتوكولات والمراسم، وترسم معظم الكتابات الغربية معالم موت الدبلوماسيّة التقليديّة.
دبلوماسيّة العلم والتكنولوجيا والابتكار في بلاد الرافدين
أما الفصل الثاني فتناول فيه دبلوماسيّة العلم والتكنولوجيا بإطلالة مفاهيميّة، معرّجاً على الاصطلاح والمعنى للدبلوماسية العلمية، ومتحدثاً عن فواعل وأركان الدبلوماسيّة العلميّة. ويسبر المؤلف سجل التاريخ في الفصل الثالث من الكتاب والذي حمل عنوان (دبلوماسيّة العلم والتكنولوجيا والابتكار في بلاد الرافدين)، متناولاً أثر اختراعات وابتكارات وعلوم ومعارف بلاد الرافدين في الحضارة الإنسانية، وتدوين وكتابة التاريخ في بلاد الرافدين على الحضارة الإنسانية (3000 ق.م)، وأثر علوم ومعارف بلاد الرافدين على الحضارة الإنسانية (4000 ق.م)، وتحديداً على الحضارة العالمية، والمصرية، والإغريقية، والرومانية.
ولولع المؤلف بالتاريخ العربي والإسلامي والتاريخ القديم قدّم كتاباً داخل كتاب، وتلك الفصول المتعلقة بالدبلوماسيّة العلميّة في حضارات العراق القديم والحضارة العربيّة والإسلاميّة، لتضع للقارئ وللدبلوماسي على وجه الخصوص زاداً معرفياً حضارياً جاهزاً يحق له أن يفخر به أمام أقرانه الآخرين.
ويتناول الدبلوماسي العراقي دبلوماسيّة العلم للحضارة العربيّة الإسلاميّة وأثرها في الحضارة العالمية، وكيف مثّلت الحضارة العربية حلقة الوصل بين الحضارات القديمة والحضارة الحديثة. ويتحدّث عن عالمية اللّغة العربية ودورها في تعزيز الدبلوماسيّة العلميّة، وعن بيت الحكمة كأول أكاديمية للدبلوماسيّة العلميّة، وعن دور بغداد كأول مدينة للدبلوماسيّة العلميّة، ودور جابر بن حيان كرائد للدبلوماسيّة العلميّة.
تأثير الدبلوماسيّة العلميّة في مؤسسات
السياسة الخارجية
أما الفصل الخامس فحمل عنوان (تأثير الدبلوماسيّة العلميّة في مؤسسات السياسة الخارجية)، متناولاً دور الدبلوماسيّة بين التكيّف وتبني الاستراتيجيات، ويخصّص قسماً حول ما أسماه الحرب التكنولوجية الباردة: تحديات الدبلوماسيّة قبل نهاية العالم، ويتحدّث عمّا أسماه (التكنو- دبلوماسيّة: منصة القرن الجديد)، ويتحدث عن ثورة الدبلوماسيّة العلميّة على هياكل وزارات الخارجية، وعن رغبة الأمم المتحدة بالاستعانة بالدبلوماسيّة العلميّة.
ويقترح المؤلف وظيفة (المستشار العلمي)، وأسماه المعادل الدبلوماسي الجديد، ومنصب (القنصل العلمي) وهذه مشاريع وهياكل مهمّة عبر دمج وزارات الخارجيّة في شبكات مع النظام العلمي عبر تعيين مستشارين علميين أو دمج وحدات العلوم والتكنولوجيا داخل الوزارات وغيرها من الأفكار الفريدة التي احتواها هذا الكتاب.
وقد توسّع المؤلف في إطار نظري واسع له قدّم السبق، حيث قدّم نماذج عمليّة وتطبيقات في هذا المجال، فأجاد وصفاً وفكرة، ليقدّم أمام صنّاع القرار والدبلوماسيّين ومتخصّصي العلوم السياسيّة أفكاراً تنفيذية مهمّة، يجب أن تكون لها حظوة. ولهذا احتوى الكتاب في فصله السادس على جولة في تطبيقات دبلوماسيّة العلم والتكنولوجيا، وهي تطبيقات عمليّة مهمة من خلال خبرة المؤلف وعمله في البعثات الدبلوماسيّة العراقيّة في فنزويلا وإسبانيا، وعمله في دوائر مثل دائرة أميركا، حيث تناول نماذج الولايات المتحدة الأميركية، والصين الشعبية، ومملكة إسبانيا،
وقد وصف الدبلوماسيّة العلميّة للعالم العربي والإسلامي في الواقع الراهن بأنها ولادة في ظل الجفوة والفوضى.