نشاطات المؤسسة

سيرة الامام موسى بن جعفر عليه السلام وفرقة الواقفة*

الباحث: علاء آل عيسى

*كلمة ألقيت في مؤسسة الابرار الاسلامية بمناسبة ذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر عليه السلام بتاريخ 16 فبراير 2023.

أودُّ أن أتحدث معكم عن عدة محطات من حياة الامام الكاظم عليه السلام واتحدث  بعد ذلك حول فتنةٍ وقعت في الوسط الشيعيّ بعد استشهاده، وفي بداية تصدِّي الإمام علي بن موسى الرضا (ع) للإمامة، هذه الفتنة هي الفتنة التي يُعبَّر عنها بفتنة الواقفية (الواقفة)، وهي فتنةٌ تعاظمت في بداية ظهورها، وكادت أن تُحدِث شرخا بيِّناً وكبيراً في النسيج الاجتماعي الشيعي، وأن تُحدِث هزةً في معتقدات أتباع أهل البيت (ع) في مختلف مواطن سكناهم وامثال هذه الفتن لا زالت تحدث شرخا في مجتمعاتنا في وقتنا الحالي. (الصرخية وغيرها).

الإمام موسى بن جعفر عاش حياته ـ كما عاش الائمة من قبله ومن بعده ـ من أجل الإسلام والمسلمين، فاستطاع أن يملأ عصره تقًى وحركةً في سبيل وعي الأُمّة لمواقفها ولمواقعها، وفي سبيل مواجهة الأُمَّة لحكّامها الّذين يضغطون على حرّيّتها، والذين يعملون على أساس الانحراف عن خطّ الرّسالة المحمدية.

كان مولده بـالأبواء في 7 صفر سنة 128 أمه تسمى حميدة البربرية.

الأبواء اسم قرية كبيرة بالقرب من ودان بين مكة والمدينة، تقع في جنوب غرب المدينة وتبعد عنها 170 كيلومتراً. اما لماذا ولد الامام الكاظم في هذه المنطقة فلم اصل الى نتيجة. ربما اراد الامام جعفر الصادق عليه السلام اخفاءه عن السلطة العباسية آنذاك او كانت هناك دار للامام الصادق عليه السلام في الابواء وتمت ولادة الامام الكاظم فيها.

هناك قبر مهم في الابواء حيث دفن في هذه القرية آمنة بنت وهب أمّ النبي صلی الله عليه وآله وسلم، كما أنّ غزوة الأبواء الّتي هي غزوة النبي الأعظم (ص) الأولى (قبل غزوة بدر)، وقابل النبي محمد (ص) رئيس بني ضمرة حتى عقد الصلح بينهما. لم تكن هناك حرب.

عندما ذهب النبي (ص) الى الحديبية مرّ بالأبواء وبكى على قبر أمه آمنة، وقام بتصليح القبر، وبعد حجة الوداع مرّ مرة أخرى على هذا المكان.

كم عدد اولاد الامام؟ قَالَ الشَّيْخُ الْمُفِيدُ في الْإِرْشَادُ ج2 ص244. وَكَانَ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ ذَكَراً وَأُنْثَى:

للتوضيح فإِنَّ الْإمَامَ الْكَاظِمَ (ع) عَاشَ خَمْسةً وَثَلَاثينَ عَاماً بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ الْإمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلامُ.

عاش مرحلته في حركة العلم، وقد ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله)، أنّه “قد روى الناس عن أبي الحسن الكاظم (ع) فأكثروا وكان الناس بالمدينة يسمّونه (زين المجتهدين)، وسمّي بالكاظم (والكظم هو الحبس)، لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين به من العباسيين.

كم سنة سُجن الامام الكاظم؟

لَمْ يُمْضِ الْإمَامُ الْكَاظِمُ (ع) مُعْظَمَ حَيَاتِهِ فِي السِّجْنِ، نَعَم أَمَضَى شَطْرَاً مِنْها، فَقَدْ سَجَنَهُ مُحَمَّدُ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ اِبْنِ أبي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قَرَابَةَ السَّنَةِ فِي بَغْدَادَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَعَادَ الْإمَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَامَ هَارُونُ اللاّرَشيدُ بِسَجْنِهِ لِمُدَّةِ قَصِيرَةٍ جِدًّا في بغداد، وَعَادَ الْإمَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اِعْتَقَلَهُ هَارُونُ أَيْضًا وَسَجَنَهُ إِلَى أَنْ اِسْتُشْهِدَ الْإمَامُ فِي سِجْنِهِ بِبَغْدَادَ مَسْمُوماً. اذا مجموع ما أَمَضَى الْإمَامُ الْكَاظِمُ سِتَّ سنوَاتٍ مِنْ عُمُرِهِ الشَّريفِ فِي السِّجْنِ.. وهناك روايات تقول المدة كانت اقل او اكثر.

بين الرّشيد والكاظم (ع) في قبر الرسول (ص)

وقف هارون العباسي أمام قبر النبي (ص)، قال: “السلام عليك يا بن العمّ”. وشعر الإمام الكاظم (ع) وهو واقف هناك، أن هارون العباسي يريد أن يضلّل الناس بالإيحاء أنه الأقرب إلى رسول الله، وبذلك فهو الأحقّ بالخلافة، ولم يكن الإمام في مقام استعراض من رسول الله (ص)، لأنه ليس بحاجة إلى ذلك، ولكنه أراد أن يردّ هذا التحدّي، فوقف على القبر وقال: “السّلام عليك يا أبه”، وكأنه يقول، إذا كان رسول الله (ص) ابن عمّك، فأنا ابنه، لأني ابن بنته.

وقد قرّر الرشيد إزاء هذا الموقف أن يعتقل الإمام الكاظم (ع)، فوقف أمام قبر رسول الله (ص)، كما يروي كُتّاب السّيرة، وقال أريد أن أعتذر من أمر أنا فاعله، أريد أن أسجن موسى بن جعفر، لأنه شقّ عصا المسلمين. وهذه هي الكلمة التي يتحرّك بها كلّ الحكّام الظالمين… باعتبار أنّ الثّورة عليهم تمثل تفريق الأمّة كما هو الحال في بلداننا الاسلامية عموما والعربية خصوصا حيث يتم اعتقال الكثير من الاحرار لماذا؟ (لانهم يريدون شق عصا المسلمين). اذاً الامام الكاظم عليه السلام هو ضحية الارهاب السياسي.  كما هو الحال عندما قتل يزيد بن معاوية الامام الحسين عليه السلام وقال انه خارجي.

قال الشهيد محمد باقر الصدر: هارون الرشيد يلتفت الى السحابة يقول لها أينما تمطرين يأتيني خراجك، في سبيل هذه الدنيا سَجن موسى بن جعفر (ع) ، هل جربنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر؟ جربنا أنفسنا، سألنا أنفسنا، طرحنا هذا السؤال على انفسنا، كل واحد منا يطرح هذا السؤال على نفسه، بينه وبين الله. اَن هذه الدنيا، دنيا هارون الرشيد كلفته أن يَسجِن موسى بن جعفر، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر في أننا أتقى من هارون الرشيد.

ثورة الفخ؟

عاصر الإمام عليه السلام من الثورات الشيعية ثورة فخّ التي تعتبر من أشدّ الحوادث التاريخية إيلاماً في تاريخ التشيع، وفخ منطقة في وادي مكة، وكانت بقيادة الحسين بن علي بن الحسن المثلث المعروف بـصاحب فخّ، سنة 169 هـ ضد الهادي العباسي. وروى الكليني: «إنّه لمَّا خرج الحسين بن عليٍّ المقتولُ بفخٍّ جاء إلى الإمام الكاظم عليه السلام، فَقال له أَبو الحسن موسى بن جعفر حين ودَّعهُ: يا ابن عمِّ إنَّك مقتولٌ….. فأَجِدَّ الضِّرابَ فإنَّ القوم فُسَّاقٌ يُظهرونَ إِيماناً ويستُرونَ شركاً ……وإِنَّا للّهِ وإِنَّا إِليه راجعون… أَحتسِبُكُمْ عند الله مِن عُصْبَة».

وروى المسعودي أن أجساد شهداء فخ بقيت ثلاثة أيام على وجه الأرض حتى أكلتهم السباع والطير ومن هنا وصفها الإمام الجواد (ع) بأنه لم يكن لأهل البيت (ع) بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ. وروي أن الإمام الكاظم (ع) كان يبكي شهداء فخّ كما تكفّل اليتامى والاطفال والأرامل العلويات.

وقد اشترك في هذه الثورة أبناء السيد عبد الله المحض بن الحسن المثنى (جد السادة الحسنية)، فقُتل منهم سليمان بن عبد الله والحسن بن محمد بن عبد الله إلا أن إدريس بن عبد الله هرب إلى المغرب فأسس هناك دولة الأدارسة كما هرب يحيى بن عبد الله إلى الديلم (طبرستان في شمال ايران).

وكان من عواقب فشل الثورة أن وجهت السلطة العباسية إصبع الاتهام الى الإمام بالتحريض والتخطيط لها. وقاد ذلك الى إيداع الإمام السجن.

وأشار الشاعر دعبل الخزاعي في قصيدته التائية إلى واقعة فخ، وقد قرأها على الإمام الرضا (ع):

أَفاطِمُ قُوْمي يا ابْنَةَ الْخَيْرِ وَانْدُبي ***  نُجُومَ سَماواتٍ بِأَرْضِ فَلاةِ

قُبُورٌ بِکُوفانٍ وَاُخْرى بِطيبَةِ  ***  وَاُخْرى بِفَخٍّ نالَها صَلَواتي

 

ما هي الأسباب التي دعت الخلفاء العباسيين والرشيد خصوصا لسجن الإمام الكاظم (عليه السلام)، واعتقاله في غياهب السجون، وظلمات الطوامير بعيداً عن أهله ووطنه، ومحروماً من الالتقاء بشيعته؟

1 – سمو شخصية الإمام

2 – حقد هارون  العباسي على آل البيت كما هو الحال عند اباءه وبغضهم للعلوييين.

3 – حرص هارون العباسي على الملك. قوله لابنه المأمون: “يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك”، أي لقطعت رأسك. في التاريخ العربي الإسلامي حوادث تؤكد أن هذا القول لم يكن مجرد صيغة مبالغة بل أمراً واقعاً، فكتب التاريخ والاحداث التي تمر بها الامة الان تحمل لنا بعض الوقائع التي تمثل تطبيقاً عملياً له.

4 – الوشاية به منها أ – جباية الأموال له. ب – طلبه للخلافة. ج- تأييده للثورات العلوية.

5-  احتجاج الإمام عند قبر النبي محمد (ص) كما ذكرنا.

6 – تعيينه لفدك: (أما الحد الأول فعدن) (والحد الثاني سمرقند). (والحد الثالث إفريقيا)، وانطلق الإمام يبين الحد الأخير قائلاً: (والحد الرابع فسيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية).

7- صلابة موقف الإمام

 

اذا هذا هو القسم الاول من البحث حول حياة الامام الكاظم عليه السلام والان نتحدث عن فرقة الواقفة:

تُطلق مفردة الواقفة على طائفة من النّاس يحملون توجهات خاصة، ويراد به الذين توقفوا في- مراحل تاريخية كثيرة- على إمامٍ من أئمة الشيعة او غيرهم. فهناك وقف عام ووقف خاص.

تعود جذور القول بالوقف العام في الوسط الاسلامي إلى اليوم الذي توفي فيه الرسول (ص)، فقد ذكرت بعض المصادر أنّه :لما قبض النبي (ص) أقبل عمر بن الخطاب يقول: والله ما مات محمد وإنما غاب كغيبة موسى عن قومه وإنّه سيظهر بعد غيبته. (ستلاحظون ان الوقوف على الاخرين عموما هو نفس العذر)

فمثلا ذهبت طائفة الوقوف على الامام علي (ع). كما ظهرت فرقة الكيسانية بعد استشهاد الإمام الحسين (ع). قالت الكيسانية بإمامة محمد ابن الحنفية، وكان الكيسانيون يرون أن محمداً بن الحنفية هو المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه حي لم يمت ولا يموت. وكيسان هو صاحب شرطة المختار المكنّى بأبي عمرة. وطائفة اخرى تسمى الزيدية.

ووقفت طائفة اخرى على الامام محمد الباقر (ع) حيث ذكرهم البغدادي تحت عنوان (الباقرية) . وذهب جماعة في حياة الإمام الصادق (ع) إلى القول بأنّ الإمام من بعده ولده إسماعيل باعتباره الولد الأكبر، ولكن لمّا توفي إسماعيل في حياة أبيه أنكروا وفاته في بادئ الأمر، وقالوا: إنّه حي يرزق، ولمّا يئسوا من حياته ذهبوا إلى القول بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل، ومن هنا سمّوا بـالإسماعيلية.

وذهب فريق آخر إلى القول بإمامة عبد الله الافطح ابن الإمام الصادق عليه السلام عرفوا بـالفطحية.

وظهرت فرقة أخرى تسمّى الناووسية؛ وإنما سميت بذلك لأنّ رئيسهم رجل من أهل البصرة يقال له عبد الله او عجلان بن ناووس.

لم تنحصر ظاهرة الوقف على الشيعة الإمامية بل يوجد لها مصاديق عند غيرهم، فقد وقف فريق من أصحاب أبي مسلم الخراساني على إمامته وزعموا أنّه حيّ لم يمت. وهناك جماعة تعرف بالراوندية ذهبت إلى نفس ما ذهب إليه الفريق السابق.

اما الوقف الخاص فهو يخص جماعة من الشيعة الذين توقفوا عند إمامة موسى الكاظم (ع) حين وفاته، ولم يؤمنوا بإمامة ولده علي بن موسى الرضا (ع)، بل قالوا إنّ الإمام الكاظم حيّ يرزق، وأنّه هو القائم من آل محمد (ع)، وأنّ غيبته كغيبة النبي موسى عن قومه، وأنّه لم يمت وإنما يعيش في الغيبة وسيرجع حينما يأذن الله له.

افترقت الشيعة بعد الامام الكاظم كالاتي:

الفرقة الاولى: وهم الاغلبية الشيعية قالوا: إن الامام الكاظم (ع) مات في حبس السندي بن شاهك وأن الإمام بعده ابنه علي بن موسى الرضا (ع) فسمّيت هذه الفرقة (القطعية)؛ لأنّها قطعت على وفاة الامام الكاظم (ع) وعلى إمامة علي الرضا (ع) ابنه بعده ولم تشك في أمرها ولا ارتابت ومضت على المنهاج الأوّل.

الفرقة الثانية : قالت أنّ الامام الكاظم (ع) لم يمت وأنّه حيّ ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلّها عدلاً كما ملئت جوراً، وإنّه القائم المهدي، ولم يقرّوا بإمامة الرضا (ع)، وقد انقسم هؤلاء بدورهم إلى مجموعة من الاتجاهات والفرق عرفوا كلهم بالواقفية أو الواقفة، ولم تكن هذه الفرقة ناشئة عن محض شبهة اعتقادية، أو بسبب فهم خاطئ لبعض المباني، بل غالبيتهم انطلقوا في معتقدهم من رغبات مادية وعوامل دنيوية أثّرت في نفوس معتنقيها، فانحرفت بهم إلى هذا الطريق، فالمتطلع في الروايات والتاريخ وكتب الرجال، يلمس أن أبرز الدوافع في نشوء هذه الفرقة والترويج لها، هو أنّ بعض (وكلاء) الإمام الكاظم (ع) وخزنة أمواله التي تُجبى له، طمعوا فيما كان بأيديهم من الحقوق الشرعية والأخماس، ومن أبرزهم، علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان الكندي (القندي)، وعثمان بن عيسى الرواسي .

فمثلا علي بن ابي حمزة البطائني كان تحت يده ما يقارب الثلاثين ألف دينار وكان تحت يد زياد القندي سبعون ألف دينار، والدينار الاسلامي هو سبيكة ذهبية بينما الدرهم سبيكة فضية والالف دينار اسلامي يعادل تقريبا 3 كيلو ذهب. تخيلوا كم قيمة هذه الحقوق الشرعية لدى الوكلاء.

قام قادة الوقف بتأليف مجموعة من المصنّفات لإثبات حقانية معتقدهم ومن تلك المصنفات كتاب الغيبة تأليف الحسن بن محمد بن سماعة الكوفي، ومنهم علي بن حسن الطاطري الكوفي : وصفه الطوسي بأنّه كان واقفيا، شديد العناد في مذهبه، صعب العصبية على من خالفه من الإمامية، و له كتب كثيرة في نصرة مذهبه، وقيل أن مجموع كتبه أكثر من ثلاثين كتاباً.

والجدير بالذكر أن اهتمام كبار رواة الشيعة وعلماء الإمامية الكبار كالشيخ الصدوق وابن بابويه والشيخ المفيد والشيخ الطوسي بنقد المذهب الواقفي وبيان فساد مزعمتهم قياساً بموقف هؤلاء الاعلام تجاه سائر الفرق والمذاهب الاخرى التي ظهرت على الساحة الفكرية، يكشف عن خطورة المذهب الواقفي الامر الذي اقتضى أن يخصص هؤلاء الأعلام حيزاً كبيراً من وقتهم للتصدي لهم ونقد مقولاتهم.

ربما سائل يسأل كيف عالج الإمام الرضا (ع) هذه الفتنة مع العلم بانه كان في المدينة اثناء استشهاد الامام الكاظم؟

لقد عولجت هذه الفتنة عبر عددٍ من الوسائل، منها:

تصدي مجموعة من أكابر علماء الشيعة لدرء هذه الفتنة -كيونس بن عبد الرحمن، وآخرين- فقد ساهموا الى حدٍّ كبير، ومن خلال مناظراتهم ومحاوراتهم، ساهموا في معالجة هذه الفتنة، فكانت تُعقد لهم مناظرات مع رؤوس الوقف، وكانت لهم مواعظ، وإرشادات، وبيانات مع الناس.

والامام الرضا (ع) قد تصدَّى أيضاً لمثل هذا الدَّور، إلا أنَّه ونظراً لكونه المدَّعى عليه من قِبل رؤوس الوقف لذلك كان المناسب أنْ يتصدَّى العلماء من أصحاب الكاظم (ع) لمعالجة هذه الفتنة. ولهذا نحا الإمام الرضا (ع) منحىً آخر في معالجة هذه الفتنة، فكان يُظهِر لهم من خلال الكرامات والإخبار عن المُغيَّبات صحَّة دعواه، فكانوا يجدون لدعائه إجابةً سريعة، وكانوا يجدون لإخباراته عن الغيب تحقُّقاً وكانت تظهرُ على يده الكرامات، فإذا رجع الشيعة نقلوا ما شاهدوه، وقالوا هذا مثلُ أبيه، مستجاب الدعوة فكانت هذه المواقف والكرامات التي أخذت تنتشر في الوسط الشيعي قد ساهمت في انحسار هذه الفتنة.

ومن الوسائل التي اعتمدها الإمام (ع) لمعالجة هذه الفتنة هو أنَّه أمر عامة الشيعة بمقاطعتهم، وعدم الجلوس معهم، ومما يعبَّر عن ذلك ما ورد في إحدى الروايات أنَّ الإمام الرضا (ع) كان قد دخل عليه محمد بن عاصم، وكان من أقطاب الشيعة، فقال له الإمام: (بلغني أنَّك تُجالس الواقفة. فقلتُ: نعم، جُعلتُ فداك، أجالسهم وأنا مخالفٌ لهم. فقال لا تجالسهم، فإنَّ الله -عز وجل- يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾. فكانت هذه الوسيلة تستهدف عزلهم عن المجتمع؛ حتى يقِلَّ تأثيرُهم، ولعلَّ بعضهم يرجع، وقد رجع الكثيرُ منهم طبعاً.

سؤال: لماذا راجت مثل هذه الفتنة في الوسط الشيعي؟

تعلمون أنَّ الظرف الذي عاشه أكثر أئمة أهل البيت (ع)، وعلى الخصوص الإمام الصادق (ع) في نهاية إمامته حينها كانت الدولة العباسية قد أحكمت قبضتها على عموم الحاضرة الإسلامية على يد أبي جعفر المنصور الدوانيقي، وبعده هارون العباسي الذي بلغت في عهده الدولة العباسية ذروتها في الاستحكام، في هذا الظرف العصيب كان الشيعة يعيشون أسوء الظروف، وكانوا يخشون على أنفسهم من أن يُنسبوا إلى الأئمة، فكان يُقال لأحدهم زنديق، ولا يقال أنَّه جعفري، شيعي! في هذا الظرف كان أهل البيت (ع) يستعملون التقَّية، ويتكتَّمون على الكثير مما يرتبط بشأنهم، وقد أثَّر ذلك على الوسط الشيعيّ، وعلى مستوى وعيه، ونضوجه، واستيعابه لقضيَّة الإمامة وبعض ملابساتها وتفاصيلها.

في مثل هذه الظروف العصيبة والإمام الكاظم (ع) -الذي يُنتظر منه أن يكون مرجعاً عندما تطرأ أيُّ شبهة- كان يقبع في قعر السجون  ظهرت شبة من رجالٍ كانوا من ذوي الوزن الثقيل ومن أصحاب التمّيُّز الاجتماعي والعلمي، فذلك هو ما ساهم في استحكام الشبهة ورواجها عند وكلائه، وعند عوامّ الناس.

عليكم بقراءة كتاب الشيعة والحاكمون للشيخ محمد جواد مغنية وسترون المآسي على اتباع اهل البيت.

الهدف من تعرّضنا لهذا الموضوع هو أنّ هناك شبهات منها:

الشُّبهة الأولى: هي أنَّه لماذا عيَّن الإمام الكاظم (ع) هؤلاء الوكلاء وهو يعلم واقعهم؟

الجواب: هل هناك افضل من نبينا محمد (ص)؟

أولاً: النبي (ص) كان قد عيَّن رجالاً في وظائفَ ذاتِ شأنٍ عام فانحرفوا. فالوليد بن عقبة -مثلاً- بعثه النبيُّ (ص) إلى بني المصطلق؛ ليجبي من عندهم الزكوات. هذا الرجل ذهب، ثم رجع فكذب كذبةً كادت أن تودي بقبيلةٍ كاملة! قال: إني ذهبت إليهم فامتنعوا عن دفع الزكاة، وقالوا إنهم لا يؤمنون بك، ولا يُصدِّقونك، وإنهم ارتَّدوا بعد إسلامهم. فنزل قوله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾

المثال الآخر: هو خالد ابن الوليد بعثه النبي (ص) بعد فتح مكة إلى قبيلة بني جذيمة، ولأنَّه كانت بين هذا الرجل وبينهم نوع من المخالطة والعلاقة، قال له أنت أنسب، اذهب لهم وادعهم للدين وإلى الاسلام، -ولعلّه كان يمتحنه في إخلاصه-. هذا الرجل ذهب في سريةٍ، وحين وصل ضيَّفوه وأكرموه وأكرموا مَن معه وتذكر الروايات أن خالد ابن الوليد لما وصل إليهم سألهم عن دينهم، فقالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فِي ساحاتنا وأذّنا فيها ثمَّ عدا عليهم، فقتل رجالهم، وأخذ غنائمهم!! وحين وصل الخبر إلى النبي (ص) عن طريق بعض من كان مع خالد انزعج انزعاجاً شديداً، وهنا توجه النبي صوب القبلة ورفع يديه للسماء قائلا: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”، رددها ثلاثا فبعث عليّاً (ع)، فدفع الدِّية لأهل القبيلة، ووبَّخ هذا الرجل توبيخاً شديداً، ولولا أنَّهم قبلوا بالدِّية لاقتصَّ منه النبي (ص)، لكنهم قَبلوا بالدِّية، فدفع إليهم الإمام علي عليه السلام الدِّية مُضاعفة.

وهناك امثال كثيرة في العصر الاسلامي الاول.

ثانياً:

النقطة الأولى: إنَّ الإمام عندما عيَّنهم وكلاء -على فرض أنَّه عيَّنهم- لم يقل للناس أنهَّم معصومون، كان من الواضح جداً أنَّ العصمة لأشخاصٍ محدَّدين فهم الذين لا ينحرفون، أما غير المعصوم فله قابلية الانحراف وعدم الثبات، فكلُّ من لم يكن معصوماً، يمكن أن يَثبُت، ويمكن أن ينحرف، فلماذا لا ينحرف هؤلاء؟! الإمام (ع) إنما عيَّنهم لأنَّهم كانوا على ظاهر الصَّلاح، ولعلهم كانوا كذلك، واقعاً، ثم انحرفوا بعد أن غرَّتهم الدنيا، وكم لذلك من مصاديق في التاريخ البشري وفي وقتنا الحاضر، إنَّ الإنسان يبدأ مؤمنا تقيّاً، ثم ينحرف، فهذا ما حصل لمثل علي بن ابي حمزة البطائنيّ، وغيره من رؤوس الوقف.

النقطة الثانية: إن الوكالة في بعض الأحيان لا تنشأ عن تعيين الإمام ابتداءً، فقد يتفق لرجلٍ أن يكون وجيهاً في مجتمعه وعالماً وله صحبة طويلة مع الإمام فيحظى لذلك بثقة الناس، لذلك يُكلِّفونه بإيصال الحقوق التي عليهم للإمام (ع)، ويستمر الأمر على هذا الحال برهةً من الزمن فيتوهم الناس أنَّه وكيل من قبل الإمام (ع) فلا يرى الإمام مصلحة في نفي ذلك، ولا يبعد أن ذلك هو ما كان عليه واقع حال رؤوس الوقف إذ لم يثبت أنهم كانوا وكلاء بتعيينٍ من الأمام الكاظم (ع) ابتداءً.

الشُّبهة الثانية:

يقال إنَّ المذهب الإمامي الإثنى عشري لم يكن حينذاك متبلوراً في الذهنية الشيعية، لذلك نلاحظ أنَّ مثل هذا الشبهة وجدت لها سوقاً رائجة في الوسط الشيعي، وإلا لو كان المذهب متبلوراً لما كان لمثل هذه الشبهات من أثرٍ أصلاً.

الجواب: لهذه الشبهة:

هل يوجد ما هو أوضح من عقيدة التوحيد؟ وأنَّ الله عزَّ وجل خالق الخلق، وهو الواحد الأحد؟ فرغم ذلك فإنَّ الكثير من الشبهات قد أُثيرت حول هذه العقيدة. فقد يكون الشيء واضحاً، ولكن يتنكَّر له بعضُ الناس أو يقعون فريسةً لشبهةٍ يُثيرها المضلِّون ممن يُحسنون الجدل والمغالطة على الحقَ، فليس كلُّ الناس يملكون من الوعي والمعرفة والنظر الثاقب ما يُحصِّنهم من الوقوع في شَرَك المضلِّين لذلك تروج الشبهات بين أمثال هؤلاء وهم كثيرون في كلِّ مجتمع.

فعليُّ ابن أبي طالب (ع) كان إماما حقّاً، والروايات المتواترة التي نصَّت على إمامته أوضح من الشمس ولا يمكن اخفاؤها على أحدٍ إلا أنَّ كلَّ ذلك لم يدفع اشتباه الكثير من الناس! ممن عاصره ومن جاء بعده، وذلك إنما نشأ عن قصورٍ في اطلاعهم أو عن حسن الظنِّ في رجالٍ كانوا على ظاهر التقوى والورع وشدة التمسُّك بسنة النبي (ص) إلا أنَّ واقع حالهم كان على خلاف ذلك فقد كانوا من المنابذين لسنةِ النبيِّ (ص) والماقتين لعليٍّ وأهل البيت (ع) فحسن الظن في هؤلاء الرجال كان منشأً لضلال الكثير من خلق الله تعالى.

واخيرا لا بد الاشارة الى انه عندما نعيش ذكرى ولادة او استشهاد اي امام من ائمة اهل البيت عليهم السلام أن نعيش فكرهم ومواعظهم ووصاياهم، وأن نحولها إلى برامج عمل في حياتنا، وهذا هو معنى الولاء للإمامة، الذي هو ليس مجرّد دمعة على المأساة، ولا مجرّد فرح على الميلاد، بل هو الخطّ العملي الذي هو خطّ الإسلام الأصيل في مسيرة الإنسان التي تبدأ من الله وتنتهي إليه.

واخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى