نشاطات المؤسسة

الحرب والسلم والهدنة والصلح في السيرة النبوية  

الشيخ عبدالحسن مسعود

محاضرة ألفيت في مؤسسة الابرار الاسلامية بتاريخ 25 مايو 2023

حين نقرأ سوة “الفتح” فانها تتحدث عن صلح الحديبية. أهمية ذلك الصلح وانعكاساته تعطينا قراءة مهمة للتعاطي مع الصراعات في حياتنا.

عقد الرسول صلحا وفيه شروط، وبعضنا يقرأه بسلبية والبعض يقرأ فيه انتصارا. اصبح للرسول باع ودور، واصبحت قريش تحسب لها حساباتها. ارتأى الرسول وضع برنامج ينفتح فيه على الآخرين ليطرح ما لديه. لم تكن خطوات الرسول اجتهادات فردية. اراد الخروج من الجمود الى رحاب الجزيرة. كانت مكة ملتقى المسلمين، كان يحج اليها الجميع حتى عبدة الأصنام. جمع الرسول صلى الله عليه واله وسلم اصحابه وجهز 1400 فارس ومعهم سلاح يكفي حاجة المسافر وليس الحرب، وكان معهم الاضاحي والهدايا. اثارت هذه الحركة حفيظة قريش، فلم تستطع تحمل ذلك المشهد، فبعثت مجموعة للاستطلاع، وبعث رسول الله وفودا لطمأنة أهل مكة بانه ينوي العمرة. كانت قريش في حالة صراع مع نفسها: أتسمح للرسول (ص) بدخول مكة فيصبح ذلك اعترافا بالرسول  (ص)، او يقفوا بوجهه ويمنعوه من الوصول الى مكة، وذلك سيثير حفيظة القبائل الآخرى، فكيف تجرؤ قريش على التصدي للرسول وهو مسالم.

كان هناك من يخطط لمعركة لكي ينتصروا على الرسول  (ص). كان هناك ثلاثة وفود من الرسول (ص) وثلاثة مجاميع قرشية تتحرش بالرسول (ص). استطاع الرسول السيطرة على الوضع ومعالجة الامور وإبعاد المسلمين عن المواجهة، فاختار طريقا صعب السلوك وغير معهود، وذلك لكي يبتعد عن قريش، وبذلك استطاع امتصاص خطط قريش. هذه هي الحيثيات التي سبقت الصلح.

وصل الرسول (ص) الى اطراف مكة ولكن لم يسمح له بدخولها، كان ذلك في العام السادس من الهجرة بعد سنوات من الصراع والحروب، فكانت الرحلة ممتعة بهدف استعادة القوة والاستراحة. حين وصل الرسول اطراف مكة وتم تبادل الوفود بلغ الامر ان يعقد الطرفان تفاوضا.

الحرج الذي كانت قريش تعيشه، كان الرسول (ص) يسعى لتخفيف ذلك الحرج. كان يشجع الفريق الراغب في الصلح. الرسول (ص) حاول امتصاص الازمة التي حدثت في اوساط قريش، ويسعى لاقناعهم بانه يحمل السلم وان من معه لم يأتوا للقتال. انقلب الامر من حالة تحدي ألى حالة سياسية، فالصلح عملية سياسية وليست ميدانية ومواجهة. الصلح يحتاج الى رؤوس وعقول متمكنة تستطيع ان تتفاوض وتحقق شيئا ليس على حساب المباديء الاسلامية.

بنود الصلح بين الرسول وقريش:

تعهد الطرفان بترك الحرب عشر سنوات يأمن الناس فيها ويكفون عن الاذى، فلا بد من وجود امان وحركة طبيعية.

النقطة الثانية: من اتى محمدا من قريش رده اليهم، ومن ذهب الى قريش من طرف محمد لا يُرد. بعض بني هاشم جاؤوا الى رسول الله فأرجعهم التزاما بالاتفاق.

النقطة الاخرى ان الرسول وافق على الرجوع عن العمرة ويعودوا العام المقبل.

يسمح للطرفين ممارسة طقوسه بشكل علني. ينبغي ان يكون هناك امان مع تجنب الخيانة والسرقة بين الطرفين.

قريش لا تعين احدا بالسلاح على محمد، وكذلك لا يعين محمد أحدا على قريش.

هذه البنود السبعة يقرأه البعض انها انتكاسة، بينما يقرأها البعض انها حالة نصر بشكل سياسي.

نذكر هنا عدة امور:

اولا: ان المسلمين حققوا فرصة لنشر الاسلام والدعوة وتبليغ المباديء وهذه فرصة جيدة.

ثانيا: ان قريش اعترفت ضمنا بالدولة الاسلامية وحركة الرسول، بينما كنت في حالة مواجهة مع الرسول وحالة اقصاء والغاء. بينما بالصلح اصبح هناك اعتراف متبادل، وهذا فتح للمسلمين.

ثالثا: عودة المهاجرين الى اهلهم، وهذا يقوي شوكتهم ويشجعهم على الاستقرار والاستمرار. فمن منغصات المهجر فراق الاحبة والاهل.

رابعا: ان المسلمين اصبح لهم باع في الجزيرة العربية في مقابل اليهود والنصارى الذين كان لهم دور. قريش كانت تعتبر نفسها أم الجزيرة. وبدخول الصلح اصبح للمسلمين باع سياسي، فلديهم قوة عسكرية ولكنها كانت في حالة حصار واقصاء وغياب فرصة تعرف الآخرين على الدعوة.

خامسا: الصلح مهد لفتح مكة. حيث تضاعف عدد المسلمين في خلال سنتين، فكان لديهم كسب، فقد تضاعف عددهم واصبحوا رقما كبيرا، يملأ الانظار والنفوس، ويوفر هيبة كبيرة للمسلمين.

كما ان الرسول حين حقق ذلك استطاع ان يفاتح الملوك ورؤساء الدول المجاورة للجزيرة العربية، واستطاع ان يهييء بشكل منتظم لبناء جيش قادر على المواجهة خارج الجزيرة العربية. كانت القبائل تفكر داخل الجزيرة، بينما الرسول (ص) اصبح يفكر للتأثير خارج الجزيرة العربية، وقد وفر الصلح كل ذلك. من خلال ذلك لنقرأ هذه الاحداث قراءة معاصرة لنستفيد من التاريخ:

لا بد ان نرتبط بالتاريخ بوعي، والاحداث التي عاشها الرسول (ص) تكشف لنا حقيقة استراتيجية ومنهجية ينبغي ان لا تغيب عن حراك المسلم الفكري والعقادية والاخلاقي. كان الصلح نقلة تاريخية ومنهجا للاحداث، وضع الرسول (ص) خطوطا عريضة للحراك المستقبلي.

هناك ابعاد اخرى:

ان الرسول حقق منهجا اخلاقيا، يتمثل بمبدأ الحوار وهو انساني وعقلاني يوفر للانسان قوة اكثر مما يتوفر في ساحة المعركة. التغيير هنا يحدث داخل العقول التي تستوعب العقيدة وهو غاية النصر.

الحوار اذن منهج حضاري، مارسه الرسول (ص) في الصلح واعطاه اهمية واقنع اصحابه به برغم احتجاج بعضهم على التفاوض مع قريش. الحوار هو منهج القرآن، اراد الرسول (ص) تركيزه عمليا. الحوار هو البعد السياسي الاول الذي ابرزه الرسول (ص) في صلح الحديبية اثبت وجود بعد نظر ولم ينحصر بدائرة ضيقة غير قادرة على استيعاب المستقبل. الحوار يثبت مناهج وقيما للمستقبل.

الحوارات التي كان يمارسها مع اصحابه وفرت نهجا ايجابيا لحركة الرسول (ص). هذا المنهج كان من الضروري ان ياخذ دوره. هذه المرة استخدم الرسول (ص) المنهج مع اعدائه واعداء الدين. بعد زمن محدود اكتشف المسلمون ايجابيات ذلك المنهج. عالج الرسول (ص) الامر بطريقة ميدانية وحقيقية ووفر للانسان فرصة من خلال طرح المفاهيم والقيم من خلال منهج الحوار.

في واقعنا المعاصر، هناك حالة من الصراع وحالات من التوافق كما يحدث بين السعودية وايران. الامر انقلب الآن، فاصبح الطرفان يجتمعان ويضعون خطوات لفتح السفارات. الرسول (ص) اراد ان يؤكد ان الصراع ليس شخصيا، بل ان الحوار كان من اجل الخير والصلح.

الامر الثاني من صلح الحديبية هو تعظيم الحرمات الالهية. كان المسلمون محرومين من الوصول الى بيت الله الحرام. فلو لم يتوافقوا مع قريش لبقيت المقدسات بايدي المشركين. فمن لديه قدرة على تغيير نهج الامة ازاء الطواف بالكعبة. اصحاب الرسالة حين يعظّمونها ويرى الكفار ذلك فيتأثرون. لدينا قيم اخلاقية توجه تحركنا.

نحن نعيش في لندن، هل نلتقي مع السيخ او الهندوس، لكن التقينا معهم في مسيرات حول القضايا المشتركة. احيانا التقي مع اعدائي في امور فاقطف ثمار التقارب مع اولئك الاعداء. هذه الخطوة تقرب المسافات، وقد حققه الرسول (ص) في صلح الحديبية، وذلك بتقريب القبائل في الجزيرة العربية. هو يختلف مع القبائل المشركة، ولكن الرسول سايرهم فترة ولم يسمح لها بالتعشعش في اذهان المسلمين.

مبدأ التفاوض والتعايش

هناك امر عاشه الرسول (ص) في مكة وهو يواجه قريش، فقد استفاد الرسول  (ص) حين تسعى لتغيير بعض المناهج والسلوكيات والاخلاق، فهل تتحقق بالسرعة التي تريدها؟ هل تستطيع التأثير بعيدا عن الآخرين. حين تكون في المهجر ينبغي استحضار منهج التغيير. الحوار هو بناء أسس تمكنك من الوصول الى هدنة مع العدو، اما الحضور الميداني فيؤدي لنتائج اخرى. حين تكون بعيدا عن ساحة العمل فان فرص انجازاتك تكون محدودة. الحضور الميداني ضرورة لتحقيق فرص التغيير والوصول الى الناس واخلاقهم وعاداتهم.

الرسول (ص) اعطانا اضاءة للعاملين بان يعقدوا احلافا مع مجتمعات قد تكون غريبة عن المسلمين. اتفق الرسول (ص) مع بعض القبائل اليهودية ومنهم بنو قريضة. وضع الرسول منهجية جديدة في ذهنية الانسان المؤمن، وهي ان عليه ان يستقوي بالاطراف الأخرى من خلال التفاوض والتعاون. احيانا بعض الدول تتحالف مع دول اخرى لكي تواجه اعداءها القريبين. الاحلاف مطلوبة بشرط ان لا نتسامح حول المباديء والقيم والاهداف.

وجود القوات الغازية في بلدنا يعملون ضمن نقاط لا ندركها، فهم يسعون لترويج قيمهم في مجتمعاتنا، ومنها المثلية، فهم يركزون على ذلك لانهم ليس لديهم ساحة للعمل، فيستغلون ساحتك لفرض مبادئهم وتحقيق ساحات وميادين خاصة بهم.

علينا الاستفادة من تجربة الرسول الاكرم بهذه السبل والمناهج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى