فكر إسلاميمؤتمرات وندوات

مكارم الأخلاق وصلتها بالدين- دراسة نقدية

كلمة القيت في مؤتمر منتدى الوحدة الاسلامية الثالث عشر الذي اقيم عبر العالم الافتراضي 3-4 يوليو 2020mohammad hashim

الدكتور محمد هشام سلطان- الاردن

بسم الله الرحمن الرحيم

مكارم الأخلاق وصلتها بالدين- دراسة نقدية

في البداية نسوق حديث رسول لله صلى الله عليه وسلم الذي اخرجه البخاري في كتاب الأدب والسيوطي في الجامع الصغير: ( قال صلى الله عليه وسلم: إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق.)

ومن يتأمل الصلة بين الأخلاق والدين يجد أنه لا يمكن حصرها في وجهٍ واحدٍ، بل ينبغي اعتبار وجوهٍ عدةٍ فيها، ذلك أنه قد تكون علاقة تارخية؛ بمعنى أن الأخلاق والدين قد شهدت أحداثً معينة. وقد تكون علاقة نفسية بمعنى أنهما يمدان الإنسان ببواعثَ ومقاصدَ مخصوصة.

وقد تكون علاقة اجتماعية بمعنى أنهما ينشآن بين الناس. وقد تكون علاقة منطقيةً بمعنى أن لهما خصائص صورية تُورثها قدرة استدلالية معينة. وقد تكون علاقة معرفية بمعنى أنهما ينطويان على مبادئ ومعايير أولى تنزلُ منزلة الأصول التي يتفرع أو يتأسس عليه سواهما. وقد تكون علاقة كيانية (أي انطولوجية) بمعنى أن العلة بوجودهما مشرع إلهي أو مشرع إنساني يضمن نفعهما للأفراد والجماعات وما شابه ذلك.

والملاحظ أن فلاسفة الغرب لم يتناولوا هذه العلاقة بين الأخلاق والدين من تلك الوجوه المختلفة كلها بل اقتصروا على بعضها ولا يتعدون احياناً للوجه الواحد، وبذا يكون الفلاسفة قد بحثوا ثلاثة أشكال ممكنة للعلاقة بين الأخلاق والدين نسميها على التوالي:

  1. تبعية الأخلاق للدين.
  2. تبعية الدين للأخلاق.
  3. استقلال الأخلاق عن الدين.

ونجدُ أوائل الأخلاقيين القائلين بتبعية الأخلاق للدين في الفلسفة الغربية الفيلسوفين الكبيرين القديس أوغسطين  والقديس توماس الأكويلي ويستندان في هذا القول إلى أصلين أثنين أحدهما الإيمان بالله والثاني إرادة الإله.

 أما تبعية الدين للأخلاق في الفلسفة الحديثة على القول بمدأ الإرادة الخيرة للإنسان الذي أقام عليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كارت نظريته الأخلاقية؛ استقلال الأخلاق عن الدين. وقد تفرعت من الفلسفة الدقيقة التي عرفت تحت عنوان ( لا وجوب من الوجود). واشتهر بهذه الفلسفة الأخلاقية دافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزي الذي يعارض كل تأسيس للأخلاق على أصول خبرية أو أصول غير أخلاقية. وبالتالي أنه أول من يدعو إلى استقلال الأخلاق، وقد حرص هيوم على نوعين من القضايا:

  1. القضايا التي تخبر عن الإله.
  2. القضايا التي تخبر عن الإنسان.

ويترتب على هذا أن هيوم يحصر الأمر في نتيجتين:

الأولى أن هيوم يُخرج الأحكام الدينية من الأحكام الأخلاقية وذلك بحصر الحكم الديني في الإخبار عن المغيبات كما يكون الحكم الطبيعي على المشاهدات.

الثانية أن هيوم يعتبر الأحكام الدينية لا تصلح أن تؤسس الأحكام الأخلاقية وأن الدين لم يأت لكي يعلم الناس ما يمكن أن يدركوه بآلاتهم وقدراتهم المختلفة التي خلقوا بها. ونشيرُ إلى اعتقاداتٍ شائعة بصدد الدين والأخلاق. فإذا كان الفلاسفة قد تذبذبوا بين القول بتبعية الدين للأخلاق والقولُ باستقلال الأخلاق عن الدين. فإننا لا نقرهم على هذا التذبذب بل على العكس من ذلك نلومهم عليه لأنه دليلٌ ضعيف.

وإذا كان الفقهاء والأصوليون قد اخذوا بتبعية الأخلاق للدين بموجب تسليمهم بأن الدين جاء لينظم حياة الإنسان في مجموعها، فإن كنا نقرهم على هذا الأخذ فإنا نلومهم على كونهم جعلوا رتبة الأخلاق لا تتعدى رتبة المصالح  الكمالية، حاملين عبارة مكارم الأخلاق على معنى مكامل الأخلاق التي ورد فيها الحديث الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، أي تكميلات للأخلاق، في حين لو أنهم اتبعوا المنطق السليم في فهم حقيقية الدين لتبينوا أن الأخلاق أولى برتبة المصالح الضرورية من غيرها، فما ينبغي لدين إلهي، ناهيك بالإسلام، أن ينزل إلى الناس مقدماً الاهتمام بشؤون الحياة المادية للإنسان على الاهتمام بكيفيات الارتقاء بحياته الروحية!

وهل في المصالح ما يختص بكيفيات هذا الارتقاء غير الأخلاق! ثم هل في شؤون الإنسان ما هو أدل على إنسانيته من شأنه الخلقي؟ وإذا قيل أن الفقهاء والأصوليين قد ذكروا حفظ الدين من بين المصالح الضرورية، والأخلاق إنما هي تابعة للدين فإن حفظهم للدين هو حفظ للأخلاق. وهما بين موقفين اثنين كلاهما قادحٌ فيهم، فإما أن يفهموا هذه التبعية كون الأخلاق جزءاً من الدين كما تكون العبادة جزءاً منه، وحينئذٍ يلزمهم أن يكفوا عن عادتهم في وضع الأخلاق في المرتبة الثالثة من مراتب المصالح الإنسانية. ثم أن يباشروا تجديد النظر في كثير من أحكامهم في المصالح، هذا إن لم يتعين عليهم مراجعة الأصول نفسها التي بنوا عليها نظريتهم في المقاصد.

وإما أن يبقوا على عادتهم في حفظ الرتبة الثالثة في الأخلاق وحفظ الرتبة الأولى للدين. والصواب أن الدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين بغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين. ولا يمكن أن نتبين هذه الحقيقة إلا إذا تخلصنا من اعتقادات شائعة عن الدين والأخلاق ونخص بالذكر منها  ثلاثة:

  1. الأصل في الدين حفظ الشعائر الظاهرة.

ليس من شك في أن أداء الشعائر واستخدام الجوارح في أدائها والدوام على هذا الأداء الحسي أمورٌ يقوم عليها أياً كان. لكن أن تصير هذه الأمور مطلوبة لذاتها حتى يظن أن الدين كله ينحصر في المظاهر الخارجية لهذا الأداء الشعائري، فهو ما لا يمكن أن يتفق أبداً مع مقصد الحقيقة الدينية. وبذا يجب أن يكون الغرض الأول من الشعائر هو تحصيل الأخلاق بحيث تكون قيمة الشريعة معلقة بقيمة الخلق الذي تحتها، إذا زاد فضل الخُلق زادت درجة الشعيرة، وإذا نقص نقصت كما تكون قيمة أداء الشعيرة معلقة بمدى تحقق هذا الخلق في سلوك مؤديها، وإذا حسن السلوك حسن الأداء، وإذا ساء السلوك ساء الأداء.

  1. الأصل في الأخلاق هو حفظ الأفعال الكمالية.

بمعنى أن الأخلاق أفعال يتوصل بها إلى ترقية الإنسان إلى مراتب لا تدخل فيها هويته. ولا بالأولى وجوده وعلى اعتبار أنها الفضائل يعني الزيادة. والحال أن الأخلاق ليست كمالات بمعنى زيادات لا ضرر على الهوية الإنسانية بتركها، وإنما هي ضروراتٌ لا تقوم هذه الهوية بدونها بحيث إذا فقدت هذه الضرورات فقدت الهوية، بدليل أن الإنسان لو أتى ضدها ساءت أخلاقه لعُدَّ لا في الأنام وإنما في الأنعام كما في الآية:

 { إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا}. بحيث يتعين علينا أن نعتبرها بمثابة مقتضيات تدخل في تعريف هوية الإنسان نفسها. ولن يتأتى لنا هذا إلا إذا جعلنا وجود الإنسان لا متقدماً على وجود الأخلاق، وإنما مصاحباً لوجودها، وهو أمرٌ ليس في علمنا أن أحداً من الأخلاقين تفطن إليه أو تكلم فيه، والحاجة تدعو إلى إنشاء نظرية أخلاقية يكون من أصولها مبدأ الجمع بين شرط الأخلاقية وشرط الإنسانية.

ونذكر أن الإنسان خليقة، وحدُ الخليقة أن يكون في آن واحدٍ خَلقاً وخُلقاً، وكما أن الخلق يمر بأطور، فكذلك الخُلق يتقلب في أحوال وكما أن الخلق يبدأ في غيب الأرحام قبل الخروج إلى عالم الوجود، فكذلك الخُلق يكون قديماً عند الدخول  في السلوك، وبعد الخروج إلى الوجود والدخول في السلوك، يبقى الفعل الخَلقي غير منفكٍ عن الفعل الخُلقي، لأن الإنسان يكون فيه مسؤولاً بوجه من الوجوه، يتخلص لنا من هذا الحقائق وأمثالها أن ضرورة الخُلق لإنسان كضرورة خَلقه سواءً بسواء، فلا إنسانية بغيرأخلاقية.

  1. المعتبر في الأخلاق أفعال معدودة.

معلومٌ أن أشهر تصنيف أخلاقي هو التصنيف الأفلاطوني الذي يجعل القضايا الأساسية أربعاً وهي: العفة والشجاعة والروية والعدل. واعتبره البعض تصنيفاً كونياً، ومبدأ الحصر مقدوح فيه من وجوه. إن الأخلاق بعدد أفعال الإنسان فلما كانت الأفعال أكثر مما تحصى كانت الأخلاق مثلها لا تحصى، وقد يعدل الخُلق الواحد اخلاقاً شتى. إن الشعائر الدينية لما كانت معقوليتها تكاملية بوجهٍ لا يشاركها فيه غيرها كانت أقرب وأهدى للوصول إلى إدراكٍ لا متناهٍ، وكيف لا ومُنزّلُ هذه الشعائر هو الكائن الذي لا تتناهى كمالاته.

وحاصل الكلام أن الأخلاقيين من فلاسفة الغرب اتخذوا من الصلة بين الأخلاق والدين ثلاثة مواقف متباينة:

–              ففرقة أولى ترى أن الأخلاق تابعة للدين.

–              وفرقة ثانية ترى أن الدين تابع للأخلاق.

–              وفرقة ثالثة ترى أن لا واحد من الطرفين تابعٌ للأخر.

فالدين لا ينحصر في شعائر ظاهرة لا معاني خفية تحتها بل إنه لا فائدة من اتيان الشعيرة من دون تحصيل السلوك وفق المعنى الخفي الذي يكمن فيها. كما أن الأخلاق لا تنحصر في أفعال كمالية لا حرج في تركها بل هي أفعال ضرورية تَختل حياة الإنسان بفقدها ولا هي أفعال معدوددة لا توسع معها بل هي أفعال لا نهاية لها.

ومن مضامين الأخلاق الإسلامية:

  1. الجمع بين العقل والشرع.
  2. الجمع بين العقل والقلب.
  3. الجمع بين العقل والحس.

والميثاق الأول للأخلاق الإنسانية لا يمكن أن يتم الوصل بين العقل والشرع إلا إذا جرى الوصل بين العاقل والشارع ويكون مضون ذلك الاتفاق والإقرار بما يضعه  الشارع، والشارع هنا ليس إنسانياً وإنما هو إلهي، والإله يستحيل أن ينقض الاتفاق، في حين يجوز أن ينقضه الإنسان، لذلك يكون الاتفاق من جانب الإنسان العاقل عبارة عن تعهد ملزم فهو يتعهد أن يكون عقله موافقاً للشرع ومخالفاً للهوى.

وقد حدث هذا في يوم “ألست بربكم” المشار إليه في الآية الكريمة في سورة الأعراف:

 ( وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على انفسهم، ألست بربكم قالوا بلى).

فأجابوه أجمعين شاهدين على أنفسهم ” بلى”، ذلك هو الميثاق الذي اخذه الشارع الأسمى من العقلاء وعقولهم، فكيف إذا طبيعة الأخلاق التي يجوز أن يزود بيها هذا الميثاق الأول الإنسان لمواجهة ما يواجهه من هويته.

وكل من يتأمل هذا الميثاق يجد خصائص الأخلاق التالية:

  1. أن واضع هذا الميثاق هو الله تعالى وهو المشرع له والضامن لمسيرة العقل الإنساني.
  2. إن أخلاق الميثاق الأول إلى العالم كله فهي تخص صلاح الفرد والأمة قاطبةً وصلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان، إنها ترفع همة الإنسان في إصلاح العالم بداية ًمن نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسرهِ.
  3. إن أخلاق الميثاق الأول أخلاق شاملة لكل أفعال الإنسان ويجعلها انسب أخلاق العالم المنتظر لكون أساسها إلهي فإنها تسوي بين حقوقهم وواجباتهم وإنها تحفظهم من ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم لبعض، وإن الميثاق الإلهي جمع إلى كمال الإلهية ضمانه بينما الميثاق الاجتماعي لا كمال فيه ولا ضمان.

إن أول إنسان تلقى أول طور من أطوار تحقيق ميثاق الجمع بين العقل والشرع أي الطور الفاتح ألا وهو أبو البشر آدم عليه السلام.

والإنسان النموذجي  أو إنسان الختمي الذي تلقى آخر طور من أطوار هذا التحقيق للجمع بين العقل والشرع أي الطور الخاتم ألا وهو سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام.

ولما كان هذا الطور النهائي أكمل أتم طورٍ استوجب أكثر من غيره العناية بهذه الذات الخفية فيكون الإنسان الذي تحمل هذا الطور الأكمل والأتم أحق بهذه العناية، حتى يستحق أن يكون نموذجا لسواه، ولذلك جاءت حادثة شق الصدر لتكون منها أخلاق التطهير، وأخلاق التأهيل، وأخلاق التجديد وذلك على وفق الميثق الإلهي، وبذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق الكامل وكما وصفه القرآن في سورة الأعراف: ( وإنك لعلى خلقٍ عظيم). ويمكننا أن نؤكد ونقول إنه هو الإنسان الكامل.

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى