كلام في الفضل بين الإنسان والملَكْ

العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي
اختلف المسلمون في أنّ الإنسان والملَكْ أيُّهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى فرقة الأشاعرة، أن الإنسان أفضل، والمراد به أفضلية المؤمنين منهم، إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضلّ من الأنعام، وهو أهل الجحود منهم، فكيف يمكن أن يفضل على الملائكة المقرَّبين؟ وقد استدلّ عليه بالآية الكريمة: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، على أن يكون الكثير بمعنى الجميع، كما أومأنا إليه في تفسير الآية، وبما ورد من طريق الرّواية، أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.
وهو المعروف أيضاً من مذهب الشيعة، وربما استدلوا عليه بأنّ الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية، لكن الإنسان من جهة اختياره، تتساوى نسبته إلى الطاعة والمعصية، وقد ركِّب من قوى رحمانية وشيطانية، وتألف من عقل وشهوة وغضب، فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه وهو غير ممنوع من المعصية، بخلاف الملك، فهو أفضل من الملك.
ومع ذلك، فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدَّم ليس باتفاقي بينهم، فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقاً، كالزجاج، ونسب إلى ابن عباس.
ومنهم من قال بأفضلية الرّسل من البشر مطلقاً، ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة، ثم عامّة الملائكة على عامّة البشر.
ومنهم من قال بأفضليّة الكروبيّين (بعض الملائكة المقرَّبين إلى الله) من الملائكة مطلقاً، ثم الرّسل من البشر، ثم الكمَّل منهم، ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرّازي ونسب إلى الغزالي.
وذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر، واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.
إلى قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
وقد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضليّة الإنسان من الملك، ممن فسّر الكثير في الآية بالجميع، فقال في الكشاف، في ذيل قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا}: هو ما سوى الملائكة، وحسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة، وهم هم، ومنزلتهم عند الله منزلتهم.
والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كلّ شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم، وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟…
وما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة، أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدّنيا، رويت عن ابن عمرو أنس بن مالك وزيد بن أسلم وجابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولفظ الأخير قال: لما خلق الله آدم وذريته، قالت الملائكة: يا ربّ، خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون الخيل، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.
ومتن الرواية لا يخلو عن شيء، فإن الأكل والشرب والنكاح ونحوها في الإنسان استكمالات مادية، إنما يلتذّ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه، بما جهز الله به بنيته المادية، والملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسّل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية وأعماله المملة المتعبة، منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون، فمن المحال أن يسألوا ذلك، فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنّوه.
ونظير هذا وارد على ما تقدّم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك، بأن وجود الإنسان مركّب من القوى الداعية إلى الطاعة والقوى الداعية إلى المعصية، فإذا اختار الطاعة على المعصية، وانتزع إلى الإسلام والعبودية، كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة، المجبولين على ترك المعصية، فهو أكثر قرباً وزلفى، وأعظم ثواباً وأجراً.
ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية، لفقدهم غرائز الشهوة والغضب، ونزاهتهم عن هوى النفس، كان امتثالهم للخطابات المولويّة الإلهيّة أشبه بامتثال العنين والشيخ الهرم لنهي الزنا، وكان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.
وفيه أنّه لو تمّ ذلك، لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلاً، إذ لا سبيل لهم إلى المعصية، ولا لهم مقام استواء النسبة، ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهرية، إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية، وتسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، ولو كان كذلك، لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لأعمالهم منزلة.
لكنّ الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى، وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل الإنس، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه، وهل هذا كلّه لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم؟.
وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء، إذ قال فيهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26، 27] وقال: {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6]، فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد، ومدح طاعتهم واستنكافهم عن المعصية.
وقال مادحاً لعبادتهم وتذلّلهم لربهم: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28] وقال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}[فصّلت: 38]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} إلى أن قال – {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ *إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف: 205، 206] فأمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكره كذكرهم، ويعبده كعبادتهم…
وعلى هذا، فذوات الملائكة، ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة، ولا يحكم في أعمالهم إلا ذلّ العبودية وخلوص النيّة، أفضل من ذات الإنسان المتكدّرة بالهوى المشوبة بالغضب والشهوة وأعماله الّتي قلّما تخلو عن خفايا الشّرك وشآمة النفس ودخل الطبع.
فالقوام الملكي أفضل من القوام الإنساني، والأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان، وفيها لون قوامه وشوب من ذاته، والكمال الذي يتوخّاه الإنسان لذاته في طاعته، وهو الثواب، أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.
نعم، لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذّاتيّ تدريجاً بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعاً أو بطيئاً، كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاماً من القرب، وموطناً من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، وظاهر كلامه تعالى يحقّق هذا الاحتمال.
كيف، وهو سبحانه يذكر في قصّة جعل الإنسان خليفةً في الأرض، فضل الإنسان، واحتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلّها، وأنّه مقام من الكمال لا يتداركه تسبيحهم بحمده وتقديسهم له، ويطهّره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض وسفك الدّماء، كما قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، إلى آخر الآيات [البقرة: 30، 33].
ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسّجود لآدم، ثم سجودهم له جميعاً، فقال: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر: 30]. وقد أوضحنا في تفسير الآيات في القصّة في سورة الأعراف، أن السجدة إنما كانت خضوعاً منهم لمقام الكمال الإنساني، ولم يكن آدم (عليه السلام) إلا قبلة لهم ممثّلاً للإنسانية قبال الملائكة.
فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، وفي الأخبار ما يؤيّده.
*من كتاب “تفسير الميزان”.