في رحاب ولادة الإمام عليّ (ع): لنكن على نهج إمام العلم والفكر والجهاد والتقوى…

﴿ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد﴾، ﴿إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾، “يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي”، “أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتِ من الباب”، “عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار”، “من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار”.
ذلك هو عليّ (ع) في كتاب الله وفي سنّة رسوله، نلتقي بذكراه في الثالث عشر من شهر رجب، في ذكرى ولادته المميّزة، حيث إن أمّه فاطمة بنت أسد عندما أخذها الطلق وهي إلى جانب الكعبة، دخلت الكعبة وولدته في بيت الله، وكان هو الوحيد المولود في الكعبة، وكأنّ ولادته في الكعبة التي هي أقدس بيت لله في العالم، إيحاء بأن عليّاً (ع) فتح عينيه في بيت الله ليعيش منذ أول صرخة يصرخها في الجهاد بتوحيد الله وتكبيره، وليصرخ في العالم كلّه بمعرفة الله والعلم الذي يقود الناس إلى الله، وليتحرّك في مواقف الحقّ ليقول كلمة الحق بكل قوة.
هذا عليّ الذي نستطيع أن نقول من خلال تاريخه الأول إنه ابن رسول الله، ليس في النسب وإنما في التربية، فقد أخذه النبي (ص) من أبيه وعمره سنتان، وكان يضمه في حضنه وينام معه في فراشه، وكان يقوم تجاهه بمهمّة الأم، فقد قال عليّ (ع) عن طريقة تغذية رسول الله له: “وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه”، “وكان يلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتباع الفصيل إثر أمه”.
وكان عليّ (ع) قبل الرسالة يعيش مع رسول الله (ص) في معنى محبته لله وعبادته له عندما كان يتعبّد في غار حراء، ولم يكن معه إلا عليّ، وكان يعيش معه ويستفيد عقله من عقله، وروحه من روحه، وخلقه من خلقه، وعلمه من علمه.
أما بعد الرسالة، عندما اشتدّ عوده، فكان يدافع عن رسول الله (ص) في مكة عندما كان سفهاء قريش يغرون به صبيانهم، وكان عليّ الصبيّ يلاحق صبيان قريش دفاعاً عن رسول الله، وعاش مع النبي (ص) طيلة حياته بعد الرسالة، فكان في مكة التلميذ والرفيق، كان رسول الله (ص) يخرج إلى البيت الحرام ليصلّي ومعه أم المؤمنين خديجة، وكان عليّ ثالثهما، وهو الذي قال: “لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة “، كان أول من صلّى بعد النبي (ص)، لأنه كان يعيش معنى الصلاة مما تعلّمه من النبي من أن الصلاة معراج روح المؤمن إلى الله، فكانا يعرجان معاً بروحيهما إلى الله تعالى في صلاتهما التي هي أحلى أنواع الصلاة.
ومن خلال هذه الصلاة، كان عليّ تلميذ رسول الله (ص)، وهو الذي قال: “ما من آية نزلت إلا وأنا أوَّل من يسمعها من رسول الله، وأول من يفهمها منه”. ولذلك تعلّم عليّ القرآن من أول آية نزلت إلى آخر آية من رسول الله، لأنه كان وفاطمة مع رسول الله، ولذلك ورد أنه “لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ”، كان عليّ وفاطمة يشربان من ينبوع رسول الله، فكما كان عقل علي من عقل رسول الله، وكما كانت روحانية عليّ من روحانية رسول الله، كذلك كان عقل فاطمة وروحانيّتها من عقل رسول الله وروحانيّته، ومن هنا أخذت فاطمة (ع) مكانها من رسول الله كما أخذ عليّ مكانه منه، لا من خلال القرابة، بل من خلال الكفاءة، وهو الذي قال: “فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني ومن أغضبها فقد أغضبني”، لأنها كانت تتحرك برضى الله في رضاها، ولم يكن يغضبها إلا ما يُغضب الله.
وكان عليّ (ع) المعلّم في داخل الواقع الإسلامي، حيث كان المسلمون يدخلون في دين الله أفواجاَ، وكان عليّ (ع) فارس الإسلام، فقد بدأ جهاده في واقعة بدر، ولم يكن قد تدرّب على أيّ شأن من شؤون الحرب، حتى قيل في السيرة النبوية الشريفة إن عليّاً (ع) قتل نصف القتلى من المشركين، وقتل المسلمون القسم الآخر، وقيل إن جبرائيل (ع) هتف: “لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار”، لما أبداه من بطولة في بدر والأحزاب وأُحد وحنين، وقد قال رسول الله (ص) عندما برز علي (ع) إلى عمرو بن عبد ودّ: “اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله”، وقال (ص): “ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين”.
إمام الوحدة الإسلامية
وكان عليّ ـ بكلمة رسول الله ـ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وبعد رسول الله (ص) أُبعد عليّ (ع) عن حقّه، فكان المخلص لشؤون الإسلام والمسلمين، وقال: “لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة”، ولذلك كان عليّ (ع) ذا العقل المنفتح الذي أعطى من عقله كلّ ما يحتاجه المسلمون، وساعد الخلفاء الذين تقدّموه بالرأي والمشورة والحماية والحفظ، ولذا كان عليّ يمثل إمام الوحدة الإسلامية.
لذلك، نقول لكل المسلمين الذين يحاولون ـ باسم عليّ ـ أن يمزقوا الوحدة الإسلامية: إنكم تقفون ضد عليّ الذي كان رائد الوحدة الإسلامية، وإذا كنتم تتشيّعون لعليّ، فحافظوا على الوحدة الإسلامية، لأن الكفر والاستكبار يعملان بكل ما لديهما من قوَّة على أن يمزقوا المسلمين، ليقتل بعضهم بعضاً، وليكفّر بعضهم بعضاً، وقد قال رسول الله (ص) في حجّة الوداع: “لألفينّكم ترجعون بعدي كفاراً ـ أو ضلاّلاً ـ ويضرب بعضكم رقاب بعض”، “إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”.
وكان عليّ (ع) في خلافته التي حاول الكثيرون أن يربكوها بمختلف الوسائل والأساليب، كان يؤكد للمسلمين المنهج الذي يعطيهم المبادئ العامة في الحياة، فنجده (ع) يقول للمسلمين، وهو الحاكم الأول في خلافته، ليعلّمهم كيف يتعاملون مع أيّ حاكم يأتي من بعده، لينقدوا الحاكم ولا يخضعوا له، بل أن يدرسوا كل مسؤول في إيجابياته وسلبياته، يقول (ع): “فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة ـ أهل السيف ـ ولا تخالطوني بالمصانعة ـ المجاملة والمداراة، بل كونوا صريحين ـ ولا تظنّوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإن من استثقل الحق أن يُقال له، والعدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مشورة بحق، أو مشورة بعدل”. كان (ع) يطلب من الأمة أن تنقده ـ وإن كان في مستوى العصمة ـ لأنه يريد أن يعلّم الناس أنهم إذا رأوا الحاكم أو أيّ مسؤول ينحرف، أن يصارحوه ويعارضوه، لا أن يخضعوا له ليشجعوه على استعباده لهم.
مساواة بين الناس:
كان (ع) يساوي بين الناس في العطاء، لأن من تقدّمه كانوا يفضّلون البعض على البعض في عطاءاتهم، وقد عوتب على التسوية في العطاء، كانوا يقولون له: الناس لا تمشي معك إلا بالمال، وبيت المال في يدك، هناك رؤساء عشائر، فأعطِ هذا وذاك حتى يثبت حكمك ـ على غرار كثير من الناس من الحكّام أو حتى بعض المواقع الدينية الذين يستعملون الحقوق الشرعية في ترتيب أوضاعهم ـ فما كان جوابه (ع)؟ قال: “أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور في مَن ولّيت عليه، فوالله ما أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله”. وقال (ع): “ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودّهم، فإن زلّت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين وألأم خليل”.
وقد انطلقت في فترة حكم الإمام عليّ (ع) ما يسمّى المعارضة، ونحن نراها غباءً نتيجة غبائهم وتخلّفهم، ولا سيّما عندما قام الخوارج عليه، فماذا صنع معهم؟ لم يقتلهم ولم يطردهم، ولم يمنع المال عنهم، وبعث لهم من يحاورهم، ثم حاورهم بنفسه، وكان يسألهم: إذا كنتم تعتقدون بضلالي فلماذا تضلّلون بضلالي أمة محمد. ولم يقاتلهم إلا عندما عاثوا في الأرض فساداً. وعندما قام عليه طلحة والزبير وأعلنا الحرب عليه، حاسبهما وسألهما عن سبب ذلك، وكان الجواب: لقد ساويتنا بالناس ونحن من صحابة النبي؛ لأنه كان يؤمن بالحوار حتى مع الذين عارضوه، وعندما قُتل طلحة والزبير في معركة البصرة ترحّم عليهما وأبّنهما.
إمام العلم والفكر
كان عليّ (ع) يعيش ليثقّف الناس، وما نقرأه في “نهج البلاغة” هو جزء بسيط مما قاله عليّ ووعظ به، وعندما نقرأ عليّاً في كلماته وخطبه ووصاياه، نجد أنه (ع) أعطى للمستقبل كما أعطى للحاضر، ولذلك عندما نقرأ عليّاً الآن، فإننا نشعر أنه يتحدث عن زماننا وقضايانا، حتى عندما يتحدث عن القضايا الاجتماعية، فإنه يلاحق آلام المجتمع وقضاياه، ويخلط بين الموعظة والواقع الاجتماعي، في بعض خطبه في نهج البلاغة يقول: “عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء، مؤجّلون ومدينون مقتضون، أجلٌ منقوص وعمل محفوظ، فربَّ دائب مضيّع، وربَّ كادح خاسر، وقد أصبحتم ـ ولنقارن بين كلامه وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس ـ في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر فيه إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوان قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقراً، أين أخياركم وصلحاؤكم، أين أحراركم وسمحاؤكم، أين المتورّعون في مكاسبهم، والمتنزّهون في مذاهبهم، أليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغّصة، وهل خُلقتم إلا في حثالة لا تلتقي إلا بذمّهم الشفتان استصغاراً لقدرهم وذهاباً عن ذكرهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد فلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده، هيهات لا يُخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والنّاهين عن المنكر العاملين به”.
عليّ (ع) هو الإمام في مدى الزمن، إمام العلم والفكر والجهاد والتقوى والإسلام، تعالوا لنتعلّم من عليّ لنكون تلاميذه، وليكون القدوة لنا: “ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد”.. وعاش عليّ، لله حتى كان في محرابه يكبّر الله ويسبّحه ويحمده ويركع ويسجد، وانطلق ابن ملجم بسيفه المسموم ليضربه على رأسه وهو ساجد، فشعر بالسعادة والانتصار، لأنه بدأ حياته في بيت الله وها هو يلاقي ربه وهو ساجد في بيت الله، فكانت كلماته وجرحه ينزف: “بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة”. إننا لا نملك إلا أن نحبّ عليّاً بعقولنا وقلوبنا وكل حياتنا، ونقرأ بيت الشاعر المسيحي:
يا سماء اخشعي ويا أرض قرّي واخضعي إنني ذكرت عليا