(شهر رمضان) رمز تقريب القلوب وتأليف الشعوب

” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان “.
كم لهذا الشهر الكريم من مزايا في الدين والتاريخ: فيه بدأ نزول القرآن، وهو دستور الإسلام، ومنبع علومه، وحارس شريعته، وفيه انتصر المسلمون في أول غزوة وهي غزوة بدر الكبرى، فاستقرت دولتهم، وقويت شوكتهم، وأمر أمرهم، وأصبحوا أمة ذات سلطان وهيبة، بعد أن كانوا قوما مهاجرين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله، وفيه ليلة القدر التي هي بنص القرآن الكريم خير من ألف شهر.
يمتاز شهر رمضان في الدين والتاريخ بهذه الميزات الثلاث، وكل واحدة منهن ذات معنى خاص، وشأن خطير:
فأما القرآن الكريم فإنه أفضل كتب الله أنزله على أفضل رسله، فكان آيته الكبرى الخالدة على الزمان، ولم يكن خلود هذا الكتاب وإعجازه لقوى البشرية راجعاً فحسب إلى البلاغة وقوة البيان مما ادى إلى سجود العرب البلغاء له، وخفضهم للرؤوس إذعاناً واعترافاً، وإنما كان أيضاً لما أودعه الله إياه من علم وإيحاءات وإرشادات، ومن تهذيب للنفوس وتقويم للأخلاق، وأنه لا ينافي علماً ثبتت صحته بالدليل والبرهان، ولا يعارض صلاحاً يمكن للبشر ان يعتمدوا عليه في ترقية شئونهم، وإقرار السلام والأمن بينهم، وما تزال مبادؤه ومثله وقواعد أحكامه ومناهجه هي النور الذي يهدي الحيران، ويرد الشارد، ويضئ آفاق الحياة ولن يزال كذلك في مستقبل الدهور والأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وليس القرآن وسيلة الهدى للعرب فقط ـ وإن بدئ بهم ـ بل اهتدى بأنوار معارفه العالية عامة البشر، كما انه ليست الاستفادة من القرآن مقصورة على إصلاح العقائد والعادات فقط، بل أفاد العالم في توجيههم إلى علوم الطب والطبيعة وأسرار كائنات الأرض وكامنات السماء، وأفاد العرب خصوصاً في تقويم اللسان وتقوية البيان وتوسيع فنون اللغة والبلاغة والادب.
فاذا أهلّ شهر رمضان فانه يذكر المسلمين بهذا، وينبههم إليه تنبيهاً قوياً وكأني بالقرآن الكريم يطل من علياء سمائه على المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض مع هلال رمضان فيناديهم: أنا الهدى فهل من مهتد ؟ أنا النور فهل من مستضئ ؟ أنا شعار مجدكم، وعنوان عزكم، ورمز عظمتكم، أنا هدية الله اليكم، أنا رحمة الله فيكم، انا المنهاج القويم، أنا الصراط المستقيم، بي تعزون، وبمبادئي تسودون، فاعتصموا بي فأنا حبل الله، واستظلوا بلوائي فأنا ظل الله ” وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله “.
فاذا انصت المسلمون إلى هذا النداء، وأجابوا داعي الله فأصلحوا أنفسهم، ورجعوا إلى كتاب ربهم، فأجدر بهم أن ينالوا مجد الدنيا ومجد الاخرة .
أما إذا استقبلوا القرآن على أنه كتاب يتلى لمجرد التعبد بتلاوته، أو كان تكريمهم اياه مقصوراً على عدم مسه إلا على طهارة، أو على حمله تفاؤلا باستصحابه أو دفعاً لما يتوقع من أخطار، أو كتابة بعض آياته في مصاحف منسقة بخط جميل، ورسم جميل، وتعليقها على حوائط البيوت والمحال، أو كانت عنايتهم به في حدود التمرن البلاغي، والتطبيق الادبي، كما تدرس النصوص الادبية دراسة لفظية، فأهون بهذا كله، وما أبعده عما انزل الله له كتابه العزيز.
وأما غزوة بدر الكبرى فما أعظمها في تاريخ الإسلام فخراً، وما اجدرها بالبقاء والخلود، وأن نحتفل بذكراها كما نحتفل بأعز شئ في هذا الوجود، إن المسلمين قبل بدر كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، لم تكن لهم دولة يخشى بأسها ولا يحسب حسابها، كانوا في ” يثرب ” ضيوفا على الانصار يشاركونهم مساكنهم وأقواتهم ومتاعهم، وكانت تأتيهم الأنباء من مكة بان القوم قد استبدوا بأموالهم وبيوتهم، وآذوا كل من ينتسب اليهم، فكانت قلوبهم تتنزى ألماً، وصدورهم تغلي حقداً على هؤلاء المبطلين الذين لم يرعوا جانب الحق، ولم يبقوا على الرحم، ولم يحسبوا حساباً لاي معنى من المعاني الإنسانية الشريفة حتى إذا واتتهم الفرصة في بدر انتهزوها فضربوا في صدر الكفر، وفلقوا هام المشركين، وأفهموا مكة أنهم قوة تخاف، وان الله سيجعل من هذه الحفنة المشتتة المبعثرة امة قوية تُعلي كلمة الله، وتنشر عدل الله، وتثبت رحمة الله، وتخدم شريعة لله.
فلنذكر برمضان هذه الذكرى بعد ذكرى نزول القرآن فهي ذكرى التوطيد والتشييد بعد اعتناق شرعة الحق، واستقبال الدستور الالهي الخالد .
وأما ” ليلة القدر ” التي أنزل الله فيها كتابه، واختارها ظرفا لأعظم حادث يعرفه الناس من صلة الأرض بالسماء، فقد جعل الله ظرفها هو هذا الشهر ايضاً، جعل لها فضلا على سائر الليالي حيث تضاعف فيها الحسنات، وتفاض الرحمات، فهي بما انزل الله فيها من كتابه رمز لأعظم هبة رحمانية وهبها الله للعقول، وهدى بها الانسانية، وأخرجها من الظلمات إلى النور، وهي بما يفيض الله فيها رمز لأكرم معاملة بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب: والا فاي فيض أعظم من هذا الفيض ؟ يقوم العبد لله ليله خاشعاً خاضعاً متبتلا فيقبل الله عليه بإحسانه، ويضاعف له في جزائه حتى يمنحه على ليلة واحدة ثواب ألف شهر، وحق لهذه الليلة ان تكرّم، فإنها ليلة القرآن وكفى.
تلك مزايا ثلاث من مزايا ” رمضان ” ومن أهم مزاياه أيضا أنه ربيع اتحادنا ورمز تقريب القلوب، وتأليف الشعوب، وموسم اجتماعي تعمر فيه المساجد والمعابد، وتكثر فيه أندية الخلطاء والخلصاء، ويتزاور الاخوان والجيران، وحدانا وزرافات مما يؤدي إلى تصفية القلوب، وتزكية النفوس، وغسل الصدور من حفائظ الاحقاد والاحن، باعتذار هذا لذاك، وحنان ذلك على هذا، وحركات جاذبية الحب من كل إلى كل، وكثرة التردد والتودد، وبذلك صار سيد الشهور، كما في الحديث المأثور.
ومن مزايا هذا الشهر المبارك فرض الصيام في ايامه، والصيام خير وسيلة لاصلاح النفس، لاصلاح الجسم، لاصلاح المجتمع.
وفيه إشعار المسلمين بأنهم أمة واحدة، لا فرق بين قاصيهم ودانيهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم، يصومون معاً، ويفطرون معاً، ويشعر بعضهم بشعور بعض.
وقد اشار الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) إلى أهم الغايات في فلسفة الصوم قائلا:
(إنما فرض الله على عباده الصوم ليستوي الاغنياء والفقراء في هذا البلاء، وليدرك الاغنياء ما يجري على هؤلاء، فيؤثروهم على أنفسهم رحمة وحناناً فتزول أخطار المجتمع).
فيا أيها المسلمون:
ها هو ذا قد أظلكم شهر رمضان، شهر الهدى والفرقان، وفي هدى القرآن كل الخير والبركة من صلاح وإصلاح، وتعاون وتضامن، فوحدوا صفوفكم، ووحدوا قلوبكم، ووحدوا شعوبكم ” واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها “.
” واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون “. (سورة الانفال:26).
* سماحة العلامة السيد هبة الدين الحسيني الشهير بالشهرستاني (من كبار العلماء في العراق) نقلا عن (مجلة رسالة الإسلام، 1/3/2006)، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.