مقاييس الولاء والبراء إنسانيًّا ودينيًّا

د. سعيد الشهابي

كثيرا ما طرح موضوع الولاء والبراء للنقاش، خصوصا أن القرآن الكريم تطرق له في آيات عديدة، فشجّع على موالاة المؤمنين ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والله وليُّ المؤمنين﴾. وحذّر من موالاة أعداء الله والإنسانية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾. والولاء لا ينحصر بالشعور فحسب، أي المودّة أو البغض، بل يتصل بالمواقف والسياسات والتحالفات. فالولاء إنما هو لله وما يرضيه من أعمال، والبراء يُفترض أن يكون من كل ما هو غير ذلك. وهذا ينطلق من الإيمان بضرورة تقوية الصف الإيماني دائما، وعدم الانسياق وراء التضليل والدعاية والتشويش. فالعلاقة مع الله سبحانه وتعالى يجب ان تتأسس على الإيمان الحقيقي وليس على التقليد والاتّباع. وكلّما توطّدت علاقة الإنسان مع ربّه، أصبح أكثر ثقة بما يفعل، فيجد نفسه قادرا على تجاوز الاختبارات الصعبة لأن الغشاوة قد زالت عن قلبه، فأصبح ينظر بعين الله. وما أجمل أن يكون المؤمن مستنيرا بنور الله ومعتمدا على الدليل الثابت في صنع القرارات خصوصا في موضوع الولاء والبراء.

وفي عالم اليوم حيث تتداخل المصالح قد يجد المرء نفسه أحيانا مدفوعا للتقارب مع جهات يعتقد أنها تحقق شيئا من مصالحه، وإن كانت سياساتها بشكل عام غير ودّيّة للمسلمين والمؤمنين. وهنا يصبح المرء أمام امتحان صعب، بين مراعاة مصالحه وما تقتضيه من تقارب مع أطراف غير محبّبة إليه، أو يبتعد عن تلك الأطراف ويرى فيه ذلك تهديدا لمصالحه. إنها معادلة صعبة تفرض نفسها على الكثيرين، ويرى البعض نفسه أحد أطرافها، وقد يخونه الخيار، فيجد نفسه أكثر ميلا لأطراف لا تتوفر فيها سمات الإيمان أو العدالة أو الاستقامة. إنها النفس التي تزيّن للإنسان ما ليس محمودا، وقد تبعده عن طريق الحق والصواب. ويأتي دور التقوى لتثبيت سلامة الطريق وتعميق البصيرة ليسهل ذلك. قال عليٌّ عليه السلام: إنما هي نفسي أروضها بالتقوى.

إن الولاء والبراء من أهم آليات ترويج الخير، فالمؤمن لا يوالي إلا ذوي العمل الصالح، ويرفض أن يتناغم مع أهل الظلم والضلال. وقد أكد النبي موسى عليه السلام ضرورة عدم موالاة من يمارس الإجرام قائلا: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾. وذكر القرآن بوضوح قصة سيدنا نوح عليه السلام عندما رأى نفسه مخيّرة بين الانحياز للحق أو الاستمرار في العلاقة الأبوية مع ابنه الضال. فجاءه التوضيح الإلهي للموقف: ﴿يا نوح إنه عملٌ غير صالح﴾. وما أكثر الآيات والأحاديث والتوجيهات التي توضّح الموقف المسؤول. وجاء في الدعاء: اللهم أرني الحق حقًّا فأتبعه، والباطل باطلا فأجتنبه، ولا تجعله متشابها عليّ فأتبع هواي بغير هدًى منك. فما أجمل أن تتضح الامور للمؤمن، فلا يجد نفسه مضطرا للسير على غير هدًى أو الاعتماد على الظن والتقدير غير المؤسسين على الدليل الواضح.

إن وضوح الموقف يتأسس على قوة الإيمان وعمق البصيرة. ولذلك مطلوب من الإنسان مواصلة تقوية إيمانه ويضع أمامه هدف بلوغ الحالية اليقينية، وإن كان ذلك صعبا إلا على القلّة القليلة من البشر. ولذلك كانت العبادة الحقة طريقا لتعميق الإيمان وتقوية البصيرة. والحديث عن العبادة لا يعني الأداء اللفظي والآلي للواجبات، بل يتضمن التفكّر والتدبّر ليس خلال أداء العبادة، بل في كل لحظة وموقف. ويُفترض ان تكون العبادة ممارسة مستمرة لا تنحصر بأداء الصلوات الواجبة، بل أن الاهتمام بالمستحبّات طريق آخر لتعميق الإيمان والوعي. هذه الممارسات تساهم في توضيح طريق المؤمن، فتتضح لديه موازين الحب والكره، الصداقة والعداء، وبذلك يصبح موضوع الولاء والبراء أيسر لديه. قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة 22)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى