
إغتصاب العقل.. أبعاده وتأثيراته من منظور علمي وقرآني وروائي على منهج أهل البيت
الدكتور عباس العبودي
في عصر تتلاطم فيه أمواج الأفكار وتتشابك فيه وسائل التأثير، يبرز مصطلح “اغتصاب العقل” كأحد أخطر الظواهر التي تهدد كرامة الإنسان وحريته الجوهرية. لا يقتصر هذا المفهوم على الإكراه الجسدي، بل يتعداه إلى سيطرة ممنهجة على الفكر والإرادة، وتوجيه قناعات الفرد وتصوراته بما يخدم أهدافًا خارجية، متجاوزًا بذلك الحصانة التي كفلها الله للعقل البشري.
نتناول هذا المفهوم من ثلاث ابعاد البعد العلمي لمفهوم ، البعد القراني، والبعد الروائي الروائي المتمثل في فكر ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، الذين أولوا العقل مكانة سامية وجعلوا من صيانته وحريته أساسًا للتكليف الإلهي والاكتمال الإنساني.
أولاً: المنظور العلمي: سيكولوجية التحكم في الفكر وغسيل الدماغ
يعرف علم النفس الحديث “اغتصاب العقل” (The Rape of the Mind) بمصطلحات متعددة مثل “غسيل الدماغ” (Brainwashing)، “التحكم الفكري” (Thought Control)، و”الإكراه النفسي” (Psychological Coercion). وتشترك هذه المصطلحات في الإشارة إلى مجموعة من الأساليب النفسية المنظمة التي تهدف إلى تقويض معتقدات الفرد وقيمه وشخصيته، وزرع أفكار جديدة تخدم الجهة التي تمارس هذا التحكم.
من أبرز أبعاد هذه العملية علميًا:
- العزل: عزل الفرد عن مصادر المعلومات والدعم الاجتماعي المعتادة، مما يجعله أكثر اعتمادًا على الجهة المتحكمة.
- الإرهاق النفسي والجسدي: استنزاف طاقة الفرد من خلال الحرمان من النوم، وسوء التغذية، والضغوط النفسية المستمرة لكسر مقاومته العقلية.
- خلق حالة من الشك والارتباك: التشكيك الممنهج في معتقدات الضحية وقدراته العقلية، مما يدفعه إلى فقدان الثقة بنفسه والبحث عن “حقيقة” بديلة تقدمها الجهة المسيطرة.
- الإذلال والتهديد: استخدام الإهانات والتهديدات لزعزعة تقدير الذات وخلق حالة من الخوف والتبعية.
- السيطرة على المعلومات: تقديم معلومات مشوهة أو أحادية الجانب بشكل مكثف ومتكرر.
- التعزيز الإيجابي المشروط: مكافأة الفرد عند تبنيه للأفكار والسلوكيات الجديدة، مما يخلق رابطًا شرطيًا بين الطاعة والشعور بالراحة أو القبول.
تأثيرات اغتصاب العقل: تترك هذه العملية آثارًا مدمرة على الضحية، تشمل: فقدان الهوية الشخصية، والتبعية العمياء، والعجز عن التفكير النقدي، واضطرابات القلق والاكتئاب، والانفصال عن الواقع، وفي كثير من الأحيان، تبني أيديولوجيات متطرفة قد تدفع إلى العنف.
ثانياً: المنظور القرآني:
وقد تطرق القرآن الكريم لذلك من خلال ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 22) وتكرارها بصيغ متقاربة في القرآن، لا تمثل مجرد حجة واهية للمشركين، بل هي الدستور المؤسس لجريمة اغتصاب العقول، والبيان الرسمي الذي تعلنه كل سلطة فكرية قمعية لتبرير هيمنتها.
آية “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا”:هذه العبارة ليست مجرد رد، بل هي إعلان استقالة العقل والتنازل الطوعي عن أثمن منحة إلهية: حرية التفكير والتحقق. لنفكك بنية هذه الحجة القاتلة:
الركن الأول: “إِنَّا وَجَدْنَا” – منطق الصدفة لا منطق القناعة هو مفتاح الجريمة. إنه فعل ، سلبي، لا يحمل أي معنى للبحث أو الجهد أو التحقيق.هم لم يقولوا: “إنا بحثنا فوجدنا”، “إنا فكرنا فاقتنعنا”، “إنا قارنا فاخترنا”.بل قالوا: “وجدنا”. أي أننا ولدنا في واقع مفروض، وورثنا فكراً جاهزاً كما نرث بيوتنا وأموالنا. إنها عقلية “المستهلك الفكري” لا “المنتج الفكري”.هذا الفعل يلغي تماماً المبادرة الإنسانية. العقل هنا ليس فاعلاً يبحث عن الحقيقة، بل مجرد وعاء يستقبل ما يُصب فيه. وهنا يكمن الاغتصاب الأول: تجريد العقل من وظيفته الأساسية وهي “البحث والتحقق”، وتحويله إلى مجرد جهاز تسجيل يردد ما سُجّل عليه مسبقاً. إنه الإقرار بأن قناعاتي ليست نتيجة اختياري، بل نتيجة ولادتي في مكان وزمان معينين.
الركن الثاني: “آبَاءَنَا” – سلطة القرابة لا سلطة الحقيقة . هنا يتم استبدال معيار “الحق” بمعيار “الأقدمية والنسب”. الحجة ليست في قوة الفكرة، بل في هوية قائلها: “آباؤنا”.
- تأليه الماضي: يصبح الماضي هو الصنم المقدس الذي لا يُمس. كل ما فعله الآباء صحيح لمجرد أنهم “الآباء”. وهذا يقتل أي إمكانية للتطور أو الإصلاح أو مراجعة الأخطاء.
- الابتزاز العاطفي: في هذه الكلمة تكمن سلطة العاطفة على العقل. معارضة فكر الآباء لا تُقدم على أنها خطأ فكري، بل “عقوق” وجحود للفضل. هذا الابتزاز العاطفي هو أحد أقوى أدوات اغتصاب العقل، حيث يتم إسكات النقد ليس بالحجة، بل بإثارة الشعور بالذنب.
هذا هو الاغتصاب الثاني: مصادرة معيار “الحقيقة” و”الدليل” واستبداله بسلطة وهمية قائمة على علاقة الدم وقدسية الماضي.
الركن الثالث: “عَلَىٰ أُمَّةٍ” – سجن المنظومة المتكاملة
كلمة “أُمَّة” هنا تعني طريقة ومنهجاً ونظاماً متكاملاً للحياة. هم لم يجدوا آباءهم على فكرة جزئية، بل على منظومة مغلقة وشاملة.
- الجدران الشفافة للسجن الفكري: هذه المنظومة تخلق سجناً فكرياً لا يرى الفرد جدرانه لأنه وُلد بداخله واعتبره العالم كله. فهو يوفر له إجابات جاهزة لكل سؤال، ويحدد له الصواب والخطأ، والمقبول والمرفوض.
- الخوف من الفراغ: أي محاولة للتفكير خارج هذه “الأمة” أو المنظومة تُصوّر على أنها خروج إلى الفوضى والضياع والخواء. السيطرة هنا لا تتم بالقوة فقط، بل بجعل البديل مرعباً ومجهولاً.
وهذا هو الاغتصاب الثالث: بناء سجن فكري متكامل يوهم السجين بأنه حر، ويجعل من الخروج منه مغامرة محفوفة بالخطر الوجودي.
الركن الرابع: ﴿وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ – إعلان العبودية والتبعية
هذه هي النتيجة الحتمية للأركان السابقة، وهي أخطر جملة في هذا الدستور المظلم.
- قتل المستقبل: عبارة “على آثارهم” تعني السير خلفهم دون رؤية الطريق. إنها تعني أن وجهة المستقبل محددة سلفاً بخطوات الماضي. لا مجال للإبداع أو التجديد، فالهداية الحقيقية الوحيدة هي في تقليد خطاهم.
- الاعتقاد بأن التقليد هو الهداية: الكارثة الكبرى أنهم لا يقولون “وإنا على آثارهم مقلدون” كاعتراف بالضعف، بل يقولون “مهتدون” كإعلان للفخر. لقد وصل الاغتصاب الفكري إلى ذروته حين يقتنع الضحية بأن سجنه هو الحرية، وبأن عماه هو عين البصيرة، وبأن تقليده الأعمى هو قمة الهداية.
الرد القرآني الصاعق في مواجهة الارث المغلق وتحرير الانسان من قيوده المضلة من خلال تفجير اسس السجن
القرآن لا يناقش هذه الحجة، بل يفجرها من أساسها بسؤال واحد مدمر وبسيط: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170) ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ (الزخرف: 24)
هذا السؤال القرآني هو إعلان تحرير العقل. إنه يفعل التالي:
- يعيد للعقل سلطته: يضع “العقل” و”الهداية” كمعيار أعلى من “الآباء”.
- يجبر على التقييم: يجبر المقلّد على الخروج من حالة التسليم السلبي والدخول في حالة التقييم النقدي. هل كان آباؤك يملكون الأهلية أصلاً؟
- يفتح باب الاحتمالات: يقدم احتمالاً بديلاً: ماذا لو كان هناك ما هو “أهدى”؟ مجرد طرح هذا السؤال يكسر جدران السجن المغلق.
إن آية “إنا وجدنا آباءنا” هي الشعار الذي يرفعه كل نظام شمولي، وكل جماعة متطرفة، وكل سلطة أبوية تستبد بعقول أتباعها. إنها تحول الدين من “رسالة” تتطلب القناعة، إلى “تراث” يتطلب الولاء. وتحول الإنسان من “مكلف” مسؤول عن اختياره، إلى “مقلد” معفي من التفكير.
إنها باختصار، الصيغة القرآنية الدقيقة لوصف عملية اغتصاب ممنهجة للعقل، تبدأ بتعطيل وظيفته، وتمر بمصادرة معياره، وتنتهي بإعلان الافتخار بعبوديته. والرد القرآني عليها هو دعوة أبدية لكل إنسان في كل عصر: لا تسلّم عقلك لأحد، حتى لآبائك، فالله قد أعطاكه حراً، وبه وحده ستحاسب.
تقديس حرية العقل ورفض الإكراه:
يقف القرآن الكريم سدًا منيعًا أمام أي محاولة لاغتصاب العقل أو فرض القناعات بالقوة، مؤسسًا لمبدأ الحرية الفكرية كقاعدة أساسية في العلاقة بين الله والإنسان، وبين الناس أنفسهم.
- نفي الإكراه في الدين بشكل قاطع: الآية الكريمة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256) تمثل المبدأ الأساسي والأصل الحاكم في هذا الباب. يؤكد مفسرو مدرسة أهل البيت، كالعلامة الطباطبائي في تفسيره “الميزان”، أن هذه الآية ليست منسوخة، بل هي من المحكمات التي تؤسس لحقيقة أن الإيمان قضية قلبية وعقلية لا يمكن أن تتحقق بالإجبار والقهر. فالإكراه يؤثر على الظاهر، أما حقيقة الدين التي هي الاعتقاد القلبي فلا سلطان لأحد عليها. وكما يوضح السيد أبو القاسم الخوئي، فإن الدين والإيمان من الأمور التي تقع في منطقة القلب، وهي منطقة حرة بطبيعتها، لا يمكن السيطرة عليها بالقوة.
- الحث على التدبر والتفكر: يمتلئ القرآن الكريم بالآيات التي تحث على استخدام العقل وتدعو إلى التفكر والتدبر، معتبرًا ذلك سبيلًا للوصول إلى اليقين. قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24). التدبر هو الغوص في أعماق المعاني، وهو عملية عقلية فردية لا يمكن أن تكون جماعية قسرية. إن إقفال القلوب المذكور في الآية هو نتيجة طبيعية لتعطيل وظيفة العقل ورفض النظر المستقل.
- ذم التقليد الأعمى والتبعية للآباء: يشن القرآن حملة شديدة على أولئك الذين يعطلون عقولهم ويتبعون ما وجدوا عليه آباءهم دون برهان أو حجة. قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170). هذه الآية وغيرها ترفض بشكل واضح التبعية الفكرية التي تلغي دور العقل، وهي جوهر عملية “اغتصاب العقل”.
ثالثاً: المنظور الروائي على منهج أهل البيت (ع):
العقل حجة الله الباطنة
أعطى أهل البيت (عليهم السلام) للعقل منزلة لا تضاهيها منزلة في الفكر الإسلامي، واعتبروه أساس الثواب والعقاب، والحجة الداخلية التي أودعها الله في كل إنسان إلى جانب الحجج الظاهرة المتمثلة في الأنبياء والأئمة.
- العقل مناط التكليف وأصل المعرفة: في الحديث الشهير الذي يرويه الشيخ الكليني في “الكافي” عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: “يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الْأَنْبِيَاءُ وَ الْأَئِمَّةُ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، وَ أَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ”. هذا النص يؤسس لثنائية لا تنفصم بين الوحي والعقل، فالعقل هو الأداة التي بها يفهم الوحي ويتم التثبت من صدق الرسل. وأي محاولة لسلب هذه الحجة الباطنة أو السيطرة عليها هي في جوهرها اعتداء على أساس الدين نفسه.
- حديث “جنود العقل والجهل”: يقدم الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في حديثه المفصل عن “جنود العقل والجهل” خريطة نفسية وأخلاقية متكاملة للمعركة الدائرة داخل الإنسان. فجعل للعقل خمسة وسبعين جندياً، كلها من الفضائل كالعلم والعدل والرضا والشكر والتوكل، وجعل للجهل خمسة وسبعين جندياً مقابلاً لها من الرذائل كالكفر والجور والحرص والقسوة. إن عملية “اغتصاب العقل” هي في حقيقتها محاولة لهزيمة جنود العقل واستبدالها بجنود الجهل، من خلال التضليل والترهيب والترغيب.
- مواجهة التضليل الفكري والاستضعاف العقلي: واجه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) موجات من التضليل الفكري والغزو الثقافي في عصورهم، من خلال منهجية قائمة على الحوار العقلي والبرهان العلمي. كانت مناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) مع أصحاب الملل والنحل المختلفة مثالاً ساطعاً على كيفية تفكيك الشبهات بالحجة والدليل، لا بالفرض والإكراه. كما حذروا من “الاستضعاف الفكري”، وهو حالة الركون إلى الجهل والقبول بالتبعية للآخرين، ويعتبرونه أخطر من الاستضعاف الجسدي. فالإنسان الذي يُسلب عقله وإرادته يصبح أداة طيعة في يد المستكبرين.
منهج أهل البيت في مواجهة اغتصاب العقل:
- التأكيد على أصالة العقل: اعتباره مصدرًا للمعرفة إلى جانب الكتاب والسنة.
- الدعوة إلى العلم والمعرفة: جعل طلب العلم فريضة للتخلص من الجهل الذي هو مدخل كل سيطرة فكرية.
- التحذير من الغلو والتعصب: لأن كلاهما يغلق منافذ العقل ويجعل صاحبه فريسة سهلة للأفكار المنحرفة.
- التدريب على التفكير النقدي: من خلال الحوار والمناظرة وطرح الأسئلة، كما يظهر في سيرتهم مع أصحابهم.
- ربط الإيمان بالبصيرة: الإيمان الحقيقي هو ما وقر في القلب وصدقه العمل وكان عن قناعة وبصيرة، لا عن تقليد أعمى أو إكراه.
إن “اغتصاب العقل” من منظور علمي وقرآني وروائي على منهج أهل البيت هو جريمة بحق الإنسانية، فهو يسلب الإنسان جوهر إنسانيته المتمثل في عقله وإرادته الحرة.
- علميًا، هو عملية تدمير نفسي ممنهجة.
- قرآنيًا، هو انتهاك لأصل إلهي عظيم وهو حرية الاعتقاد ورفض الإكراه.
- روائيًا (منهج أهل البيت)، هو عدوان على “حجة الله الباطنة” ومحاولة لإطفاء النور الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل.
تأثيراته لا تقف عند حدود الفرد، بل تمتد لتشمل المجتمع بأسره، فتؤدي إلى:
- انتشار التطرف والإرهاب: الذي غالبًا ما ينشأ عن عمليات غسيل دماغ للأفراد.
- تفكك النسيج الاجتماعي: من خلال زرع الشك والكراهية بين مكونات المجتمع.
- تخلف الأمة: لأن تقدم أي أمة مرهون بحرية عقول أبنائها وقدرتهم على الإبداع والتفكير النقدي.
إن السبيل لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة يكمن في العودة إلى الأصالة التي يمثلها القرآن الكريم ومنهج أهل البيت، وذلك من خلال تربية الأجيال على تقديس العقل، وتعزيز مهارات التفكير النقدي، ونشر ثقافة الحوار القائم على الحجة والبرهان، ورفض كل أشكال الوصاية الفكرية والإكراه في الدين والمعتقد.
الطاعة الالهية والعقل:
العقل بوصلة الطاعة: كيف تكون الطاعة لله ذروة المنطق في مدرسة أهل البيت
إن العلاقة بين “الطاعة الإلهية” و “العقل” هي حجر الزاوية في فهم منظومة الدين بأكملها. وفي أرض الكوفة والنجف الأشرف، التي هي مهد علوم أهل البيت (عليهم السلام)، لا تُطرح هذه العلاقة كنوع من التصادم أو التناقض، بل تُقدَّم باعتبارها علاقة تأسيس وتكامل، حيث لا قيمة لطاعة لا يؤسس لها العقل، ولا كمال لعقل لا يهتدي بنور الوحي.
إن الفكرة الشائعة التي تقول “أطِع ولا تسأل” أو “أغلق عقلك لتؤمن” هي ثنائية وهمية غريبة تمامًا عن جوهر الإسلام المحمدي الأصيل. ففي مدرسة أهل البيت، الطاعة الحقيقية ليست فعلاً أعمى، بل هي نتيجة منطقية حتمية لأعلى درجات عمل العقل.
أولاً: العقل أساس الإيمان وأصل الطاعة (لا طاعة بلا قناعة)
قبل أن تكون هناك “طاعة”، يجب أن يكون هناك “إيمان” بالجهة الآمرة (الله سبحانه وتعالى). وهنا يبرز الدور التأسيسي الأول للعقل. في فقه أهل البيت، أصول الدين (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) لا يجوز فيها التقليد إطلاقاً. أي أنه يحرم على الإنسان أن يؤمن بالله ورسوله تقليداً لأبويه أو مجتمعه.
- العقل هو الحجة الباطنة: الحديث الخالد عن الإمام موسى الكاظم (ع) لهشام بن الحكم هو الدستور الحاكم لهذه العلاقة: “يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الْأَنْبِيَاءُ وَ الْأَئِمَّةُ، وَ أَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ”.
- المعنى العميق: لا يمكن للحجة الظاهرة (الرسول) أن تثبت حجيتها إلا بالحجة الباطنة (العقل). فعقلك هو الذي يجب أن يصل إلى ضرورة وجود خالق حكيم. وعقلك هو الذي يستطيع أن يميز صدق النبي من كذب المتنبي من خلال المعجزة ومطابقة دعوته للفطرة والمنطق.
- إذن، أول خطوة نحو الطاعة هي عمل عقلي بحت. فالطاعة تبدأ من لحظة استخدامك لعقلك لإثبات وجود الله وحكمته وصدق رسله. بدون هذه الخطوة، تكون أي طاعة لاحقة مجرد عادة اجتماعية أو خوف أعمى، لا عبادة واعية.
ثانياً: العقل مُترجم الأمر الإلهي ومُدرِك مقاصده
بعد أن يوصلك العقل إلى الإيمان، لا يتوقف دوره، بل ينتقل إلى مرحلة جديدة أكثر دقة: فهم وتطبيق الأوامر الإلهية.
- فهم حكمة التشريع: القرآن الكريم وروايات أهل البيت لا تقدم الأوامر الإلهية كقوانين صماء، بل في كثير من الأحيان تشرح عللها وفلسفتها.
- الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ (العنكبوت: 45). العقل يدرك هنا أن الطاعة في الصلاة ليست مجرد حركات، بل هي عملية تهذيب للنفس.
- الصيام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ … لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183). العقل يدرك أن الطاعة في الصيام ليست مجرد جوع، بل هي تمرين على الإرادة والتقوى. هذا الفهم الذي يدركه العقل يحول الطاعة من عبء ثقيل إلى شوق وتفاعل، لأنها تصبح منطقية ومفهومة المقاصد.
- تمييز الصحيح من السقيم: يأمرنا الله بطاعة رسوله وأهل بيته. ولكن وصلنا آلاف الأحاديث المنسوبة إليهم. هنا يأتي دور العقل كأداة تمييز حاسمة. وضع الأئمة قاعدة ذهبية لعرض الأحاديث على القرآن الكريم وعلى حكم العقل القطعي. فطاعة حديث مكذوب أو غير منطقي يناقض صريح القرآن ليست طاعة لله، بل هي معصية له. العقل هنا هو حارس الطاعة الحقيقية من أن تتلوث بالخرافة والباطل.
ثالثاً: حدود العقل وتسليم الطاعة (الثقة المنطقية لا العمى)
هنا نصل إلى النقطة الأكثر حساسية: ماذا عن الأوامر التي لا يدرك العقل حكمتها التفصيلية بشكل مباشر (الأمور التعبدية)؟ هل هنا يتعطل العقل؟ الجواب: لا، بل هنا يصل العقل إلى أرقى درجات عمله.
- الفرق بين “الثقة” و “العمى”: الأمر أشبه بعلاقة المريض بأعظم طبيب في العالم.
- مرحلة العقل: المريض يستخدم عقله وبحثه ليسأل عن أفضل الأطباء، ويتحقق من شهاداته، وينظر في نجاح عملياته السابقة. هذه هي مرحلة إثبات “أهلية” الطبيب.
- مرحلة الثقة: بعد أن يثبت العقل أهلية الطبيب بشكل قاطع، يدخل المريض غرفة العمليات. هنا، منتهى المنطق والعقلانية هو أن يسلّم المريض نفسه للطبيب بشكل كامل. لو بدأ يجادل الطبيب في كل خطوة “لماذا تقطع هنا؟” أو “لماذا تستخدم هذه الأداة؟” لكان ذلك قمة الجنون والحمق.
- التسليم كذروة المنطق: هذا هو بالضبط ما يحدث في الطاعة الإلهية.
- العقل يثبت: أولاً، يثبت العقل بالدليل القاطع وجود الله (الطبيب الأعظم) وحكمته المطلقة وعلمه الأزلي وصدق رسله.
- العقل يسلّم: بعد إثبات ذلك، فإن منتهى العقلانية هو أن يثق هذا العقل المحدود بالحكمة المطلقة وغير المحدودة. فإذا أمر الله بأمر لا أفهم حكمته التفصيلية (مثل عدد ركعات الصلاة)، فإن عقلي نفسه يقول لي: “إن الجهة التي أثبتَّ بالبرهان القاطع حكمتها وعلمها المطلق، من المستحيل أن تأمر بشيء عبثي. جهلك بالحكمة لا يعني عدم وجودها”.
فالطاعة هنا ليست “عمياء”، بل هي “طاعة مبصرة” قائمة على ثقة منطقية مؤسسة على البراهين العقلية الأولية. إنها تسليم العقل الجزئي لحكم العقل الكلي المطلق. قصة النبي موسى (ع) مع الخضر (ع) في سورة الكهف هي أروع مثال على ذلك.
سيمفونية الطاعة والعقل
في مدرسة أهل البيت، لا يوجد صراع بين العقل والوحي، بل هما جناحان يحلق بهما الإنسان نحو الكمال. العقل هو الذي يريك النور من بعيد، والوحي هو الذي يمسك بيدك ويسير بك في تفاصيل الطريق.
- الجاهل هو من يطيع خوفاً أو تقليداً دون أن يعمل عقله.
- المغرور هو من يجعل عقله المحدود حكماً على حكمة الله المطلقة فيرفض ما لا يفهمه.
- العاقل المؤمن هو من يستخدم عقله ليصل إلى باب الله، ثم يسلّم بحب وثقة لمن هو أعلم وأحكم منه، مدركاً أن هذه الطاعة هي عين الحرية من الجهل والهوى، وقمة العقلانية والمنطق.
فأعقل الناس هو أطوعهم لله، لأن طاعته ليست خضوعاً أعمى، بل هي النتيجة الحتمية لعقل أبصر الحقيقة المطلقة.
نسأ؟ل الله تعالى ان يوفقنا للطاعة الواعة المبصرة وان لا يجعلنا من اهل العقول المغلقة المعطلة .