السكينة والأمن: درع المؤمن وحصن المجتمع

الدكتور عباس العبودي

في خضم بحر الحياة المتلاطم بالأمواج، وحين تشتد رياح الفتن وتتوالى صفعات المحن، يبحث الإنسان عن مرساة. في ليل الشكوك الموحش، يتلمس المرء بصيص نور. وفي معركة الوجود التي لا تهدأ، يتوق القلب إلى درع يحميه. تلك المرساة، وذلك النور، وذاك الدرع، كلها تجتمع في مفهومين إلهيين: السكينة والأمن.

ليست السكينة مجرد شعور بالراحة، ولا الأمن مجرد غياب للخطر. إنهما سلاح المؤمن الذي لا يُهزم، ومدد السماء الذي لا ينقطع. إنهما الفرق بين قلب يرتجف كورقة في مهب الريح، وقلب يرسو كجبل أشم لا تزعزعه العواصف. هذا البحث هو رحلة لاستكشاف هذا السلاح السماوي، وكيفية صقله وحمله في وجه تحديات الداخل والخارج.

أولاً: السكينة في القرآن – جند الله الخفي وسلاح الثابتين

السكينة ليست حالة نفسية يصنعها الإنسان، بل هي خلق إلهي ونور رباني يُقذف في القلوب. إنها جندي من جنود الله لا يُرى بالعين، لكن أثره يقلب موازين أعظم المعارك. هي ليست مجرد “طمأنينة”، بل هي قوة وثبات وبصيرة تُنزل في أحلك اللحظات.

شواهد قرآنية حية:

  1. في غار ثور (ذروة الخطر): عندما كان الخطر يحيط برسول الله (ص) من كل جانب، والمشركون على بعد خطوات، لم يقل له صاحبه “كن شجاعًا”، بل قال له النبي (ص) قول الواثق بربه: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾(التوبة: 40). السكينة هنا نزلت كقوة مباشرة تحول الخوف إلى ثقة مطلقة، وتجعل من أضيق الأماكن أرحبها بالله.
  2. في يوم حُنين (لحظة الهزيمة النفسية): عندما تفرق المسلمون وكادت الهزيمة أن تحل بهم بسبب الزهو بالكثرة، تدخلت السماء لتعيد بناء المعنويات المنهارة: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾(التوبة: 26). السكينة هنا كانت بمثابة صدمة إيمانية إيجابية أعادت ترتيب القلوب المتفرقة وجمعت شتاتها لتصنع النصر.
  3. في صلح الحديبية (لحظة القرار المصيري): عندما كانت قلوب الصحابة تغلي غضباً لِما رأوه “تنازلاً”، أنزل الله السكينة ليزرع فيهم بصيرة الرؤية المستقبلية لهذا الصلح الذي سماه الله “فتحاً مبيناً”: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾(الفتح: 4). السكينة هنا هي مفتاح البصيرة التي تجعلك ترى حكمة الله في ما تكرهه نفسك.

ثانياً: الأمن: الحصاد اليقيني لزرع التوحيد الخالص

الأمن ليس سلعة تُشترى بالمال أو تُكتسب بالقوة المادية، بل هو ثمرة حلوة لشجرة عظيمة هي التوحيد العملي. إنه الأمن الذي لا يقتصر على أمن الأوطان، بل يمتد إلى أمن القلوب والأرواح والمصير.

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواوَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾(الأنعام: 82). عندما نزلت هذه الآية، شقّت على أصحاب النبي (ص) وقالوا: “وأينا لم يظلم نفسه؟”. هنا يأتي نور التفسير من أهل البيت (ع) ليوضح المعنى الحقيقي، حيث قال الإمام الباقر (ع) موضحاً أن الظلم هنا هو الشرك بالله، مستشهداً بقول لقمان لابنه: ﴿يَابُنَيَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان: 13).

فما هو التوحيد الذي يورث الأمن؟ إنه الإيمان بأن لا نافع ولا ضار، لا معطي ولا مانع، لا رازق ولا قابض، إلا الله. من يصل لهذه الحقيقة، كيف يخاف من غير الله؟ من يعلم أن كل ذرات الكون بيد خالقها، كيف يرتجف من مخلوق مثله؟ هذا هو الأمن الحقيقي الذي جعل إبراهيم الخليل (ع) يقول لقومه المشركين بكل ثقة: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَاأَشْرَكْتُمْ وَلَاتَخَافُونَ أَنَّكُمْأَشْرَكْتُم بِاللَّهِ…فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(الأنعام: 81).

ثالثاً: كيف تصنع السكينة والأمن ثباتاً أسطورياً؟

في زمن الاضطراب، حين تصرخ الأحداث وتضج وسائل الإعلام بالتهويل، ترتجف القلوب الضعيفة. أما أهل السكينة والأمن، فقلوبهم مرايا تعكس نور الله، وعقولهم محكومة بالبصيرة لا بالانفعال.

  1. السكينة تُسكِت ضجيج الخوف: الخوف يصرخ في أذنك: “ستموت، ستخسر، ستفشل!”. والسكينة تهمس في قلبك: “إن الله معك، لن يصيبك إلا ما كتب الله لك، كل شيء بيده”. هذا الهمس الإلهي يطغى على صراخ الشيطان.
  2. الأمن يقطع حبال الأسباب المادية: القلب الذي لا يشعر بالأمن يتعلق بالبشر، بالمال، بالمنصب. وحين تنقطع هذه الحبال، يسقط. أما القلب الآمن بالله، فحبلُه ممدود إلى السماء، لا ينقطع أبداً.
  3. تحويل المحنة إلى منحة: أهل السكينة لا يرون في البلاء نقمة، بل فرصة. فرصة للتطهير، للتقرب، لإظهار الصدق مع الله. الألم الجسدي يصبح سلّماً للارتقاء الروحي، والخسارة المادية تصبح ربحاً أخروياً. هذا ما يجعلهم يواجهون أصعب التحديات بابتسامة الرضا.

رابعاً: شواهد حية من مدرسة أهل البيت (ع) للثبات العظيم

تاريخ أهل البيت هو موسوعة عملية في تجليات السكينة والأمن.

  • أمير المؤمنين (ع) في ليلة المبيت: ينام في فراش رسول الله (ص) والسيوف تحيط بالدار تنتظر خروجه لتقتله. أي قلب هذا الذي ينام في حضن الموت؟ إنه قلبٌ امتزج بالأمن الإلهي حتى صار الموت في سبيل الله أشهى عنده من العسل.
  • الحسين (ع) في ظهيرة عاشوراء: كلما سقط شهيد من أهل بيته وأصحابه، وكلما اشتد عليه العطش والبلاء، كانت تشرق أسارير وجهه الشريف نوراً وبهاءً. كان يقول: “هَوَّنَ ما نزل بي أنه بعين الله”. هذه الجملة هي خلاصة السكينة. رؤية أن الله يراك ويشهد تضحيتك تحوّل الألم إلى لذة.
  • زينب (ع) في قصر الطاغية: في ذروة الشماتة والغطرسة، يسألها ابن زياد: “كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ؟”. سؤال أراد به أن يكسرها، فجاءها الجواب كصاعقة من السكينة والثبات: “ما رأيتُ إلا جميلاً!”. إنها لا ترى ظاهر المأساة، بل ترى باطن الجمال الإلهي في التضحية والوفاء والشهادة.
  • الإمام الكاظم (ع) في قعر السجون: حوّل ظلمة السجن إلى محراب للعبادة وخلوة مع المحبوب. كان يدعو ربه قائلاً: “اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت، فلك الحمد”. لقد حوّل أقسى عقوبة إلى أعظم أمنية. هذا هو معنى أن تكون حراً وأنت في السجن.

خامساً: آثار السكينة والأمن: من فرد صالح إلى مجتمع محصّن

. على مستوى النفس:

  • قوة الشخصية: لا تذبذب في المواقف ولا خضوع للضغوط.
  • حكمة في القرار: القدرة على التفكير الهادئ واتخاذ القرار الصحيح في أصعب الظروف.
  • مناعة ضد القلق والاكتئاب: القلب المطمئن بذكر الله هو أبعد ما يكون عن أمراض العصر النفسية.
  • الرضا بالقضاء: استقبال أقدار الله المؤلمة بنفس راضية، مما يمنح النفس سلاماً داخلياً عظيماً.

. على مستوى المجتمع:

  • مجتمع متماسك: الأفراد الذين يشعرون بالأمن الداخلي لا يبحثون عن الأمان في التكتلات العصبية أو الطائفية.
  • مجتمع منتج: الطاقة التي يهدرها الناس في القلق والخوف، تتحول إلى طاقة بناء وعمل وإبداع.
  • مجتمع مقاوم للحروب النفسية: الشائعات والبروباغندا لا تجد لها مكاناً في قلوب رسخت فيها السكينة وعقول أضاءتها البصيرة.
  • مجتمع الرحمة: من يشعر بالأمن يفيض أمناً على من حوله، فيسود الإيثار والتعاون بدل الأنانية والصراع.

سادساً: خارطة طريق عملية لزراعة السكينة والأمن في حياتنا

  1. الصدق المطلق مع الله (التوحيد الخالص): أن تعاهده كل يوم بألا تجعل في قلبك شريكاً له، لا منصباً، ولا شخصاً، ولا مالاً.
  2. الخلوة بالقرآن (حوار مع السماء): لا تقرأه قراءة عابرة، بل اقرأه كرسائل شخصية موجهة إليك من ربك. تدبّر آيات السكينة وآيات الأمن، واجعلها دواء لقلبك.
  3. الدعاء والذكر الدائم: اجعل على لسانك وقلبك ذكر ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾. وأكثر من دعاء “يا من تحل به عقد المكاره” للصحيفة السجادية، فهو مدرسة في التوحيد العملي.
  4. التوسل بأبواب رحمة الله (أهل البيت عليهم السلام): هم الحبل المتين والباب الذي يُؤتى منه. زيارتهم، قراءة سيرتهم، والتوسل بهم إلى الله يربط قلبك بمصدر الثبات والقوة.
  5. التخلي المدروس عن الاعتماد على الخلق: كلما قلّ اعتمادك على الناس، زاد اعتمادك على الله، وكلما زاد اعتمادك على الله، فاضت عليك السكينة والأمن.
  6. عش بشعار الرضا: كرر كل صباح ومساء بيقين: “رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، وبعليٍ ولياً وإماماً…”. هذا إعلان ولاء يومي يجدد حصانة قلبك.
  7. صحبة أهل اليقين والثبات: ابحث عن الجلساء الذين يذكرونك بالله، الذين ترى في وجوههم نور الطمأنينة، فإن هذه الصفات مُعدية.
  8. واخيرا وليس باخر السكينة ليست خياراً، بل ضرورة بقاء في عالم يموج بالفتن، وتتخطف فيه الشبهات القلوب، لم تعد السكينة والأمن ترفاً روحياً، بل أصبحا ضرورة بقاء إيماني. من لا يملك هذا الدرع السماوي، فسيكون عرضة لكل سهم مسموم من شياطين الإنس والجن.

فمن أراد الثبات على صراط عليٍ وآل علي، ومن أراد أن يواجه تحديات زمن الغيبة بقلب حسيني وبصيرة زينبية، فلا بد له من أن يطرق أبواب السماء بصدق واضطرار، طالباً كنوزها الأعظم: السكينة والأمن. فبهما فقط، يتحول الخوف إلى شجاعة، والشك إلى يقين، والجزع إلى رضا، وتصبح الحياة كلها رحلة جميلة في عين الله.                                                                                                                                                                   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى