
الشهيدان السعيدان – الصدر ومطهري – إضافة إلى التقائهما الفكري والعملي الكبير، يلتقيان في نقاط عديدة من تاريخ حياتهما. كلاهما عاشا يرتقبان طلوع الفجر الإسلامي الجديد.ووو …هذا اللقاء الفكري بين شهيد العراق وشهيد إيران، وطباعة الكتاب في القاهرة يرمز إلى وحدة الدائرة الحضارية اﻻسلامية التي تقرّب بين أم فكريًا وعمليًا، وهذا ما يتطلع إليه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب اﻻسلامية.
حول كتاب الإنسان والإيمان بمناسبة صدور طبعة فاخرة للكتاب أخيرًا في القاهرة
كتاب «الإنسان والإيمان» للإستاذ الشهيد مرتضى مطهري أعيدت طباعته أخيرًا في القاهرة وهو يحمل المقدمة التالية:
«إنه الكتاب الأول من سلسلة كتب ألفها الأستاذ الشهيد تحت عنوان:
1ـ الإنسان والإيمان 2- التصور التوحيدي 3- الوحي والنبوة 4- الإنسان في القرآن 5- المجتمع والتاريخ
6- الامامة والقيادة 7- الحياة الخالدة، أو الحياة الأخرى
وخلال هذه الكتب طرح الأستاذ الشهيد نظرة الإسلام العامة إلى الكون والحياة، وتمتاز:
1ـ بالوضح والابتعاد ـ قدر الإمكان ـ عن التعقيدات الفلسفية والكلامية.
2- بالواقعية، إذ تعالج مسائل الفلسفة الإسلامية من خلال معالجة تعامل الإنسان مع واقعه.
3- بالمنهجية: ولذلك تصلح أن تكون كتبًا دراسية لتبويبها، وتنظيمها المنسق المتدرج.
4- بالعمق: فهي ـ وإن كانت بسيطة العبارة ـ تستند إلى أعمق المسائل الفلسفية، والأستاذ الشهيد معروف بـإلقاء أعقد المسائل الفلسفية بعبارات واضحة ومن خلال أمثلة حية ملموسة.
5- أنها تربوية، لأنها لا تستهدف تقويم العقل فحسب، بل تتجه إلى النفس الإنسانية فتحاول تهذيبها من خلال كشف الواقع الزائف للاتجاه المادي في التعامل مع الحياة.
والأستاذ الشهيد عُرف في هذا المجال أيضًا، فهو قد قرن التربية الفكرية بالتربية الأخلاقية في تعلّمه وتعليمه وجسّد ذلك في حياته عمليًا.
قد ينتقل ذهن القارئ الكريم وهو يتلو خصائص هذه السلسلة من كتب الأستاذ الشهيد مطهري إلى كتابات عملاق الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد السعيد الإمام محمد باقر الصدر، كما ينتقل الذهن دومًا إليه ونحن نقرأ كتب الأستاذ مطهري.
وسبب هذا الانتقال الذهني واضح..فكلا «الشهيدين» امتازا:
– بالعمق في فهم الإسلام وفهم الفكر العالمي المعاصر.
– بالأصالة الإسلامية، وعدم التأثر بتيار فكري أو اجتماعي غريب على الإسلام.
– بالاتجاه نحو تغيير الفرد والمجتمع على أساس الفكر الإسلامي.
نجد من المناسب هنا أن ننقل للقارئ الكريم فقرة من «فلسف» يوضّح فيها الشهيد الإمام الصدر «رسالة الدين» في تقديمه تفسيرًا للكون والحياة يحل مشكلة الإنسانية المتمثلة في التعارض بين «المصلحة الفردية» (حب الذات) و«المصلحة الاجتماعية»، وهذه الفقرة خير تمهيد لقراءة هذه السلسلة القيمة:
«ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غير، ولا أن تتحقق أهدافها البناءة وأغراضها الرشيدة إلاّ على أسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان وحب الذات المتركز في فطرته.
وفي تعبير آخر: إن الدين يوحّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حبّ الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
إن المقياس الفطري يتطلب من الإنسان أن يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع، بعد أن كانت مثار المأساة والنـزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟
إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة، وتتخذ العملية أسلوبين:
الأسلوب الاول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة، وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي – أو رضا الله تعالى – يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد، والمحافظة على قضايا العدالة فيه، التي تحقق رضا الله تعالى، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، مادام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوّض عنه بأعظم العوض وأجلّه.
فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضا، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة، فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلا إلى ميدان الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الإسلام، فـإنه يوسّع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحًا حقيقيًا في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقة في نهاية المطالب:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾.
﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالاً على الأسلوب الأول، الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويرًا يجعله يؤمن أن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية ـ التي يحدّدها الإسلام – مترابطتان.
وأما الأسلوب الثاني الذي يتّخذه الدين، للتوفيق بين الدوافع الذاتية والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، تعنى بتغذية الإنسان روحيًا، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه. فإن في طبيعة الإنسان ـ كما ألمعنا سابقا ـ طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تنفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تنفتح وتنمو بالتربية والتعاهد. ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان – إذا تُرك لنفسه – أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تنفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسدّدة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على احترامها ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه.
وليس معنى ذلك أن حبّ الذات يمحى من الطبيعة الإنسانية بل إن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات. فإن القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبرًا عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حبّ الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقًا للذة خاصة بذلك.