كيف واجه الامام علي (ع) الفتن ؟ فن ادارة الازمات

د. علي رمضان الاوسي
استاذ في قسم الدراسات العليا للجامعة العالمية للعلوم الاسلامية في لندن
22 رمضان 1436 المصادف 9 تموز 2015
جانب من محاضرة في مؤسسة الابرار الاسلامية في لندن في ذكرى استشهاد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام
ورد عن امير المؤمنين عليه السلام في دعائه مخاطبا ربه : ان اظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي وسددنا للحق،وان اظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة.
الامام عليه السلام كان دقيقا في صياغة معنى الفتنة فحين تقع يحتاج الانسان الى مايعصمه ويمنعه من الوقوع فيها .
ففي اللغة يقال : فتنت الذهب بالنار اذا امتحنته . فاذا اردت فصل التراب عن الذهب تضعهما في النار فينفصل الذهب عن التراب . هذا ما يعمله صاغة الذهب، فالنار هي التي تفتن الذهب فينفصل عن التراب.
القرآن طرح معنيين للفتنة، ايجابيا وسلبيا:
1- الفتنة قد تكون من اجل التربية والامتحان: (أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا امنا وهم لايفتنون) سورة العنكبوت :2
هل يظن الناس انهم سيعيشون بدون فتنة او امتحان؟ لا بد من الامتحان حتى يميز الله الخبيث من الطيب
فهذه الفتنة معناها ايجابي.
الامام علي عليه السلام ينهى عن الاستعاذة من الفتنة 🙁 لايقولن احدكم : اللهم اني اعوذ بك من الفتنة …. ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فان الله سبحانه يقول:(واعلموا انما اموالكم واولادكم فتنة) سورة الانفال 28
مضلات الفتن، اي الاسباب التي تجعل الانسان على حافة الهاوية وخطر السقوط في الفتنة .
2- المعنى الآخر هو الشرك: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) سورة البقرة : 193
وكذلك تعني الكفر 🙁 لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) سورة ال عمران : 176
وكذلك تعني الاضلال 🙁 ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم ) سورة المائدة: 41
وكذلك يوم القيامة تعني الاحتراق : (يوم هم على النار يفتنون) سورة الذاريات: 13
الفتنة اذن لها دور ايجابي واخر سلبي .
لنتناول هنا الجانب السلبي من الفتنة وهو الذي يعنيه هذا البحث :
الفتن التي واجهت الامام علي (ع) كانت قوية وعاصفة لعل أبرزها :
1- السقيفة كانت فتنة عظيمة كادت تودي بالتجربة الاسلامية برمتها
2- فتنة الناكثين وحرب الجمل
3- فتنة القاسطين والحزب الاموي وحرب صفين
4- فتنة الخوارج المارقين وحرب النهروان
هذه الحروب المفروضة آذت المجتمع الاسلامي ودمرت الكثير من ركائزه . ولولا حكمة الامام وطريقة تعامله مع الازمات والفتن لكانت انهيارات ودمار كامل و لانتهت الامة الاسلامية الوليدة . مع ذلك فقد تصدع الكيان الاسلامي بسبب تلك الفتن وظهرت بعض الطوائف والمذاهب المتجرئة على الله سبحانه .
كيف تتشكل الفتن ؟
يشير الامام علي عليه السلام الى ذلك:
انما بدء الفتن اهواء تتيع واحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى رجال رجالا على غير دين الله … ولكن يؤخذ من هذا -اي الباطل- ومن هذا – اي الحق – فيمزجان فهناك يستولي الشيطان على اوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى).
فيلبسون على الناس الحق بالباطل. هنالك وتنجو طائفة الذين سبقت لهم منا الحسنى وهؤلاء يتبنون التصدي للفتن والمفتونين .
اهواء واحكام ما انزل الله بها من سلطان
في البداية تكون ضعيفة ولكنها تتفاقم وسرعان ما تكبر ويشتد خطرها ويتعاظم . بعض العادات العشائرية تكتسب قداسة واحترام وتحل بديلا عن التشريع وقد تتحول يعض الشعائر الى فرائض فيلتبس الحق بالباطل ومن هنا تبدأ الفتن .
هذه الاهواء والاحكام حين تنطلق من هوى النفس وتتحكم بالانسان المفتون وقد تاخذ بعدا اجتماعيا وهنا تبرز قوى ضاغطة من داخل الانسان ومن خارجه.
انت انسان مجاهد فانا افضلك على القاعد ،وحين تكون عالما لا استطيع ان اقدم الجاهل عليك لان الله قدم العلم على الجهل
وهكذا حين يكون الانسان متقيا لا استطيع تقديم العاصي والمذنب عليه
حين تلغى هذه القوانين ويلبس الحق بالباطل تحل الفوضى
هذه الفتن قد تاخذ صيغا اجتماعية وقد تحدث حروب بسبب هذه الاهواء والحكام المبتدعة كحروب داحس والغبراء، وهناك الآن عشائر تتقاتل بالاسلحة الثقيلة لا لشيء انما بسبب فتن تثار هنا وهناك.
وقد تتخذ هذه الفتن طابعا تضليليا فياتي شخص ويدعي ان القرآن يخالف الدين وياتي بنظرات مشوهة تحدث تضليلا وفتنة. بينما العلم هو قاعدة الدين .
السامري مثلا انتظر غيبة موسى وحين صعد على الجبل يناجي ربه، اربعين ليلة جاء بعجل وقال لهم: هذا الهكم فاعبدوه فهز عقيدتهم.
موسى عليه السلام نزل وراى الوضع متغيرا وحصلت الفتنة حتى استطاع موسى اعادتهم ثانية .
من خصائص هذه الفتن:
1-وصف الامام علي عليه السلام الفتن : انها اذا اقبلت شبهت، واذا ادبرت نبهت.( نهج البلاغة)
تمر الامة احيانا في فتنة فلا تعرف الحق من الباطل، فقد يقتل الاخ اخاه وتسرق الامانات ويعم الخراب
وما ان تنتهي الفتنة حتى يسعى البعض للتعرف على نقاط الضعف
3- حين تحدث الفتنة تنطلق بقوة وشدة ويصف الامام عليه السلام فتوتها وبدايتها فيقول:(شبابها كشباب الغلام). نهج البلاغة .
نحن الآن نمر بفتنة طائفية داعشية، ذهب ضحيتها شباب مخدوعون، قتلوا ودمروا واجرموا
وحين تتحدث اليه وتبين له الحقائق لايصغي اليك و يراك انك المخطيء وهو الصحيح.
لكن حين تنتهي الفتنة ستنجلي الغبرة عن امور كانت غامضة على مثل هؤلاء وقد يندمون وقد لايندمون حين يتجاوزون مراحل الختم والغشاوة والاكنة والطبع على القلوب.
الفتنة الكبرى التي واجهها الامام علي عليه السلام هي السقيفة:
النبي صلى الله عليه واله وسلم توفي وعلى الفور عقدت مجموعة من المسلمين الانصار اجتماعا بسقيفة بني ساعدة. الخليفة الثاني سمع باجتماع الانصار لترتيب امورهم فذهب الى ابي بكر واخبره بالحضور، وحضر ابوعبيدة الجراح، وكان هناك بشير بن سعد عن الاوس وسعد بن عبادة عن الخزرج.
هناك مناورات سياسية حصلت – تفاصيلها في الكتب – وانتهت لصالح ابي بكر وادخل عمرالناس الى المسجد وأخذ البيعة بقوة .
من المآخذ الاساسية على هذا الاجراء في السقيفة انه لم يشمل الجميع وهناك عدد من كبار المسلمين لم يحضروا وكذلك اهل الحل والعقد والنبي صلى الله عليه واله وسلم لما يدفن كما طرحت مقاييس تم نقضها فيما بعد مثل: ان الخلافة والنبوة لاتجتمعان في بني هاشم وغيرها كثير .
حيث قال عمر بعدها: بيعة ابي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها
التاريخ الاسلامي بعد السقيفة دخل ابوابا وطرقا مغلقة.
فهناك احباطات وعقبات ساعدت في في تمرير هذا الحدث
فالامام علي مثلا سأل انس بن مالك: الم تشهد الغدير، فسكت ولم يجب
زيد بن ثابت احد كتاب الوحي التجأ الى معاوية وصار من المقربين اليه
اسامة بن زيد الذي قربه النبي اخذ موقفا بعيدا عن الامام علي
طلحة والزبير قاتلا في فتنة الجمل وقتلا فيها
بينما هناك من النصوص التي وردت عن الزبير كانت تمدحه، وهناك نص حذره الرسول فيه بان لا يقاتل عليا
السقيفة انتهت ورشحت خليفة وبدأ الامام علي يواجه الموقف بكل حكمة
فان تصدى بالقوة والعنف سيكون هناك خطر على الاسلام الوليد .
اتخذ عليه السلام طريق الحكمة، وقد اخذت منه المرجعية السياسية وبقي في المرجعية الفكرية حيث سدد التجربة الاسلامية بعلومه ومعارفه اذ انه باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه واله
وقد ورد في التاريخ ان عمر بن الخطاب قالها مرارا انه : لولا علي لهلك عمر . وهذا كاشف واضح بانه كان يمارس مرجعية فكرية.
الشعارات البراقة احد اساليب اصحاب الفتن:
الخوارج مثلا بعد ان راوا ان المصاحف رفعت سقطوا في الفتنة وقالوا: ان الحكم الا لله
تحجروا وجمدوا على هذا الحكم. وحذرهم الامام من هذا التحجر
هل كان الرسول (ص) يحكم بعيدا عن الله سبحانه ؟
هذه الآية لها سياقها اذ لا يمكن للمشرك ن يطبق احكامه ويدعو الى الشرك بين الناس
وضع الخوارج هذا النص في سياق آخر وخرج آلاف من هؤلاء بعد معركة صفين، وقال الخوارج: نحن مع التحكيم، لا نستطيع ان نقاتل اناسا يرفعون المصاحف.
فقط مالك الاشتر وبعض الاتباع رفضوها.
هذا هو التحجر الذي يعيشه خوارج العصر الداعشيون اليوم يدعون لتوحيد متحجر كما فعل محمد بن عبد الوهاب، حين تتوسل الى فانت مشرك، وحين تقدم قربانا لله فانت مشرك
هناك تحجر سقطوا فيه بشكل واضح
محطات في المواجهة:
1- حين واجه الامام علي عليه السلام الفتن استخدم الحكمة والبصيرة المنطلقتين من دائرة التقوى
فهناك مناورات سياسية لم تنطلق من التقوى كما فعل معاوية و عمرو بن العاص كانت مكرا وخداعا وغدرا ولايمكن وصفها بالحكمة السياسية مطلقا .
2- الامام عليه السلام تعامل مع رؤوس الفتن بحزم وقضى عليهم. انذرهم بخطب ونصوص مفصلة و حين لم يلتزموا، عمل فيهم السيف
3- اما بالنسبة للمخدوعين فكان يركز على توعيتهم. فقد استخدم معهم نصوصا تركز على الوعي وضرورته وبيان الحق ونزع الالتباسات .
عائشة بنت ابي بكر زوج الرسول (ص) مثلا تحركت باتجاه البصرة لاسقاطها وخرج معها طلحة والزبير واخرون.
وجاءت نساء النبي(ص) لعائشة ونهينها عن الخروج كما حذرها امير المؤمنين علي عليه السلام .
ثم ذهب الى طلحة وقال له: اجئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك بالبيت.
وقال للزبير: كنت اعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء عبد الله ففرق بيننا، اتذكر يوم مررت مع رسول الله في بني غنم، فنظر الي وضحك الي وضحكت، فقلت انت : لا يدع ابن ابي طالب زهوه. فقال رسول الله(ص) ليس به زهو، وانك لتقاتلنه.
في صفين سقط الكثير من القتلى، وبعدها خرج عن صف الامام المخدوعون الخوارج، لانهم متحجرون.
4- هناك نقطة اخرى: اذا هيمنت الشبهة على ضحاياها ولم يميزوا بين الحق والباطل فقد لا يستطيعون اتخاذ موقف، و لكن حين تتضح الحقيقة فعليك ان تتخذ موقفا باليد او الكلمة او القلب.
حينما خرجت عائشة كان شعار الفتنة الاولى: قميص عثمان، بينما الامام علي عليه السلام هو الذي بعث الحسن والحسين عليهما السلام للدفاع عن حريم عثمان.
معاوية وداعموه هيأواا للفتنة الثانية وهي فتنة صفين .
وفي معركة الجمل اعطى الامام علي الراية لابنه محمد بن الحنفية
ثم اخذ الامام علي الراية وهجم وانطلق معه الجميع وحثهم على عقر الجمل وقال: بعد ان افرغوه احرقوه فانه شيطان.
رائعة علوية:
حينما خاطب ابنه محمد بن الحنفية وسلمه الراية قال له :
(تزول الجبال ولا تزل، عض على ناجذك. اعر الله جمجمتك، تد في الارض قدمك، ارم ببصرك اقصى القوم وغض بصرك واعلم ان النصر من عند الله سبحانه).
الفارس عليه ان يكون مرفوع الرأس، وليغض بصره عن بريق السيوف حتى لا يضعف قلبه
حين نريد ان نواجه الدواعش واهل الفتن لا بد ان نستحضر هذه الاسس والمعاني البطولية الحيدرية .
5- يقول الامام علي عليه السلام في ايام الفتنة: لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف اهله
لذلك ينبهر البعض ايام الفتنة فيذهب خلف الاموال والجبروت والرجال ،