مقالات

كأس العالم وتداخل السياسة والرياضة

الدكتور سعيد الشهابي

يمكن القول ان دورة “كأس العالم” لكرة القدم تمثل ذروة الاهتمام العالمي بهذه الرياضة، تتنافس الدول لاستضافتها، وتنفق المليارات لتلك الاستضافة وتتداخل فيها السياسة من أوسع الأبواب، وتشد أنظار البشر إلى مبارياتها. وبشكل متزايد تحظى كرة القدم باهتمام الملايين من البشر، هذا في الأوقات العادية حيث الدورات المحلية والإقليمية. اما كأس العالم فيعتبر ذروة السنام، يتم الاستعداد للتنافس فيه بعد أجراء تصفيات إقليمية عديدة تؤدي إلى فرز الفرق الأكثر حظا في مبايرات كأس العالم. وما أكثر ما يبذل من أموال لتأهيل الفرق الرياضية، وما أكثر اهتمام شركات السياحة التي تزدهر في هذه المواسم لتحقق أرباحا طائلة. ويمكن القول ان الرياضة تحولت الى عالم تجاري بحت تتنافس فيه الشركات العملاقة لتوفير احتياجات القلة الصغيرة من محترفي كرة القدم ضمن المقولات الخيالية إزاء مفهوم “السوبرمان”.

من حيث المبدأ فان الرياضة مطلوبة، وهناك حث كبير على ممارستها لتحسين الحالة الصحية للأفراد، وبدونها تتضاءل حركة الدم في الجسم ويتعرض البشر للعاهات الناجمة عن ذلك. وينسب الى الرسول عليه افضل الصلاة والسلام: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل. وقد نشأت في العقود الأخيرة حالة وعي صحي تمزج بين عاملين: نوعية ما يتناوله الإنسان، والحركة  المطلوبة منه لتحسين حالته الصحية. فلا ضير أبداً من تطوير الأداء الرياضي، بل انه مطلوب جدا. ولكن هناك فرق شاسع بين الرياضة الحقيقية المطلوبة من الافراد، كالسباحة والجري وتنشيط الاعضاء بالاساليب المختلفة، والرياضة المقننة التي تحولت الى تجارة عملاقة اضعفت الطبيعة العفوية المرتبطة بالرياضة الحقيقية التي يشارك فيها الجميع. وبرغم ما يقال عن الاهتمام بقضايا البشر، فكثيرا ما انحصر الاهتمام بالدوائر الضيقة التي تحددها الجهات ذات المصلحة خصوصا في “العالم الحر”.

يمكن القول ان الدورة الحالية لـ “كأس العالم” التي تقام في دولة قطر ربما تكون الأكثر إثارة لأسباب عديدة: فقد أنفقت حكومة ذلك البلد أكثر من 20 مليار دولار لتهيئة كافة الوسائل لإنجاحها، وليس هناك دول كثيرة لديها الامكانات المالية التي تؤلها للقيام بذلك. فبالإضافة للنفط تعتبر قطر من أكبر مصدري الغاز الى العالم. ثانيها: ان الدورة حظيت باهتمام غير مسبوق وحدثت محاولات كثيرة لمنع حدوثها، سواء من الدول التي خسرت أمام قطر لاستضافتها ام المجموعات ذات الأجندات المختلفة سواء مجموعات المثليين ام رافعي شعارات تحرير المرأة ام المجموعات الحقوقية التي أظهرت اهتماما مبالغا فيه بحقوق العمال الوافدين الذين تم توظيفهم لأنجاز الإنشاءات المطلوبة للدورة الرياضية. ثالثها: انها جاءت بعد توقف الدورة السابقة بسبب وباء كورونا، فجاء الاهتمام بها متميزا من قبل هواة كرة القدم.

في عالم تنتشر فيه الظواهر الناجمة  عن توسع دوائر الاستهلاك والبذخ، أصبحت الرياضة ضرورة لتوفير قدر من التوازن من أجل الحفاظ على الصحة العامة. وقد كشفت ظروف الوباء أهمية إعادة تأهيل البشر لتقوية مناعة الأجسام خصوصا بالرياضة وتنظيم أنماط الحياة. مع ذلك لا بد من النظر الى الافراط في تحويل الرياضة الى تجارة وعالم اقتصادي عملاق ومادة للتنافس السياسي، كل ذلك لا ينسجم مع ما يفترض ان يتناغم مع مقولة “الروح الرياضية” في مجالات التسامح والتعاون والتعارف والتآخي. مطلوب من الجميع إعادة النظر في الرياضة وقيمها لتصبح ممارستها ظاهرة شعبية وعدم المبالغة في مجالات ما يسمى كمال الأجسام المحصورة بالقلة الضئيلة التي تهتم بأشكال الجسد أكثر من توفير احتياجاته الطبيعية من الحركة التي تنشط حركة الدم والقلب. مطلوب العودة الى حالة التوازن التي يفترض ان تتجسد في حياة الإنسان على كافة الصعدان، فإن حدث ذلك فسوف يكون “كاس العالم” مهرجانا رياضيا حقيقية لا ينحصر بالعدد المحدود من الرياضيين المشاركين في الدورات التنافسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى