مقالات ساخنة

التديّن والإلحاد بين الفطرة والتسييس

 د. سعيد الشهابيdr saeed shehabi

هل يمكن القول أن الإلحاد أصبح ظاهرة تجتاح العالم؟ أم أنها إحدى الظواهر الاجتماعية التي تنحسر تارة وتنتشر تارة اخرى؟

هذا السؤال ليس جديدا، وإن شعر بعض الدوائر الدينية بقلق إزاء ما يبدو من انحسار نسبي لظاهرة الالتزام خصوصا في العالم الإسلامي. الأمر الذي يمكن تأكيده أن ظاهرة الصحوة الإسلامية التي عمت مناطق كثيرة من العالم بدأت منذ أكثر من عقد بالتراجع لأسباب عديدة، ولكن ذلك لا يعني أن الإلحاد حل مكانها، بل إن الالتزام بالدين ظاهرة صاحبت الإنسان منذ بداية وجوده على هذا الكوكب. فهناك ثلاثة تجليات للظاهرة الدينية: أولها انتشار الدين كعقيدة في المجتمع وتبني المجتمع للدين كإطار لحياتهم العامة مع اختلاف في مدى حضوره في الحياة العامة. ثانيها: ظاهرة الالتزام الديني وتجلياتها الواضحة كارتياد المساجد وارتداء الحجاب من قبل النساء وربما إطلاق اللحى لدى الرجال، بالاضافة للفعاليات الاخرى كالندوات والمؤتمرات والمقالات والكتب والاحتفالات الدينية. أما البعد الثالث فيتجلى بحضور الدين في الحياة العامة، الذي بلغ ذروته في توسع الحركات الإسلامية أو ما أطلق عليه «الإسلام السياسي» الذي صاحبته شعارات أثارت القوى المضادة للدين وأهمها: الإسلام هو الحل. وبمراجعة هذه الأبعاد يمكن القول إن ظاهرة الانتماء الى الدين لم تنحسر في العالم الإسلامي، برغم سعي بعض الحكام لإضعافه. فأغلب دساتير الدول العربية والإسلامية ينص على أن «الإسلام دين الدولة». ولذلك تصاعدت الانتقادات وخرجت المظاهرات عندما قرر الرئيس التونسي الحالي بعد انقلابه على ما تبقى من مكتسبات الثورة التي دشنت الربيع العربي قبل أقل من اثني عشر عاما، إلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة من دستوره الذي رفضته قطاعات واسعة من الشعب التونسي. وبعيدا عن النصوص الدستورية فإن العقيدة شأن يخص الفرد ولا يحتاج لانتشاره الى تقنين. صحيح أن الأديان الأخرى خصوصا المسيحية تشهد انكماشا في الانتماء، وأن مرتادي الكنائس في تناقص مستمر، ولكن ما يزال للزعامات المسيحية دورها السياسي والاجتماعي، وما يزال بابا الفاتيكان شخصية مرموقة عالميا ويحظى باحترام واسع أينما ذهب.

بعد اربعين عاما من بدء حقبة الصحوة الإسلامية، بدأت ظاهرة الالتزام الديني بالتقلص لأسباب من بينها إفشال ثورات الربيع العربي واستهداف «الإسلاميين» بشكل خاص بسبب تصدرهم المشهد الثوري، وتضافر القوى المضادة للثورة للإجهاز على المسار الثوري وإفشال الحراك العربي، وتبني مشروعات إعلامية واسعة لدعم ذلك التوجه. ويمكن ملاحظة الارتباط بين استهداف الظاهرة الإسلامية وتجلياتها السياسية من جهة وفرض مسار التطبيع في العالم العربي من جهة أخرى. وما شهده بعض دول مجلس التعاون الخليجي من «انفتاح»، من وجهة نظر الغرب، إنما تجلى في جانبين: استهداف الظاهرة الدينية وتجلياتها الاجتماعية والسياسية والتخلي عن قضية فلسطين باعتبارها أحد الروافد التاريخية الأساسية للمسارين الديني والثوري. والسؤال هناك هل نجم عن ذلك توسع ظاهرة الإلحاد؟ إن من الصعب القول بأنها أصبحت مهيمنة على المشهد العقيدي والثقافي في العالم العربي. صحيح أن هناك انحسارا لتجليات الظاهرة الدينية كالحجاب وإطلاق اللحى وانتشار الموضات ومظاهر التحلل الأخلاقي، ولكن ذلك ليس كافيا للقول بوجود ظاهرة الإلحاد على نطاق واسع. مع ذلك فلا بد من الاعتراف بوجود مشاريع لدى تحالف قوى الثورة المضادة في ذلك الاتجاه. وهذا التوجه مدعوم من القوى الغربية بحماس كبير تحت عناوين براقة في مقدمتها ضمان الحرية الشخصية في الاختيارات العقيدية او حتى الهوية الجنسية للفرد. هذه الثقافة التي شقت طريقها للمجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة تحظى بدعم واسع من مجموعات الضغط الليبرالية وكذلك دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. هؤلاء لا يكتفون بانتشار هذه الثقافة في مجتمعاتهم فحسب، بل يسعون لترويجها عالميا، ويرون فيها مشروعا موازيا للمشروع الإمبريالي الرأسمالي. ويزيد من خطر هذا التوجه انه مدعوم بالقانون وتروّجه وسائل الإعلام، ويفرض بهذه الوسائل على الجهات الدينية المحافظة. فلم تستطع الكنيسة الصمود بوجه الحملات الليبرالية. وقبل عشرين عاما أصدر باتريك بوكنان، الذي كان مستشارا لرؤساء ثلاثة: نيكسون وفورد وريغان، كتابا بعنوان: موت الغرب. وتنبأ الكاتب بانحدار الغرب وتلاشيه كقوة عملاقة بحلول منتصف القرن التالي، لأسباب من بينها الانحدار الأخلاقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى