دور العلماء في التصدّي للفتنة الطائفيّة

بسمه تعالى
السيّد مجيد المشعل
من أخطر الوسائل التي يستعملها أعداء الأمّة من أجل إضعافها والهيمنة عليها واستلاب خيراتها.. هي الفتنة الطائفيّة؛ والسعي لتوظيف الانتماءات المذهبيّة – التي هي حالة طبيعيّة في كلّ الأمم والمجتمعات – لخلق صراعات دينيّة وعقائديّة بين أبناء الأمّة الواحدة، وأتباع الدين الواحد.
وهذه السياسة منهج تخريبي معروف قديماً وحديثاً، وإنّما تتشكّل بحسب الظروف والملابسات ومتطلبات العصر، لتأخذ الشكل المناسب لكلّ زمان ومكان، وتتخفّى هذه السياسة الخبيثة بعض الأحيان وراء بعض العناوين التي تعطي للصراع مبرّرات مقبولة، ولكنّ الخلفيّة الحقيقية هي خلق اصطفاف مذهبي، وتجاذب طائفيّ، يأخذ بالأمّة لنزاعات دينيّة عقائديّة.
وهذه السياسة ما كانت لتنجح وتصل لأهدافها، لولا وجود البيئة القابلة والأرضيّة المتهيّئة لها في ربوع المسلمين، فلا ينبغي أن نلفي اللوم كلّه على أعداء الأمّة، بل لا بدّ أن يتحمّل المسلمون – وعلماء الدين بالخصوص – الجزء الأكبر من المسؤوليّة، فلو ملك الواقع الإسلامي الحصانة الكافية عن هذا المرض الخطير لما استشرى وتمكّن من مفاصل حياتنا، حتّى أصبح يمثّل المادّة الأساسيّة لبرامج عدد من القنوات، ولا تكاد تخلو عنه بعض خطب الجمعة، وكذلك الصحف والكتيّبات.
وجاءت التحرّكات السياسيّة والثورات الشعبيّة في السنتين الماضيتين ضد أنظمة الظلم والاستبداد في بلداننا العربيّة، والتي عرفت بالربيع العربي، لتمثّل سبباً محليّاً إضافياً لتحريك الورقة الطائفيّة في البلدان التي حصل فيها هكذا حراك، والشّعب فيها مختلط في انتمائه المذهبي، فقد استغلّت أنظمة الحكم في هذه البلدان اشتراكها في الانتماء المذهبي مع جزء من أبناء الشّعب، لتخويفه – أي هذا الجزء من الشّعب – من الثورة وتأليبه عليها بحجّة أنّها ستسلبهم امتيازاتهم الثابتة لهم بحكم انتماءهم لمذهب السلطة الحاكمة، في سياسة طائفيّة خبيثة للتمترس وراء المذهبيّة، وتحريك النعرة الطائفيّة، للتهرّب من استحقاقات الحَراك الشّعبي، وتضييع الحقوق والمطالب الوطنيّة الواضحة في خضمّ التجاذبات الطائفيّة المصطنعة.
وهذا ما حصل فعلاً في بلدنا البحرين؛ ففي هذا البلد الصغير في حجمه، والقليل في عدد سكّانه، والمتعايش بين أبناءه في حبّ ووئام، تتحكّم عائلة في جميع مقدّرات الشّعب، وتستأثر بالسلطة السياسيّة، وتهيمن على جميع مفاصل الاقتصاد، وتتعاطى مع البلاد كملك خاصّ، وما يصل للشّعب من الفتات يعدّ تكرّماً منها، وتبني تعاملها مع الشّعب على أساس الولاء والخضوع للسلطة الحاكمة لا على أساس المواطنة، وفي ضوء ذلك تمارس السلطة سياسة تمييز وتهميش واضحة ضدّ الطائفة الشيعيّة باعتبارها الحاضنة الأكبر للمعارضة السياسيّة الوطنيّة في البلد.
ومع انطلاق ثورات ما عرف بالربيع العربي ابتداءً بتونس، ومروراً بمصر واليمن وليبيا.. تحرّك الشّعب المظلوم في البحرين في ثورة سلميّة عارمة مطالباً بحقّه في تقرير المصير، واختيار النظام السياسي الذي يحكمه، في إطار القاعدة الدستوريّة المتسالم عليها عالمياً، والمثبّتة أصلاً في دستور البحرين الفعلي، أعني؛ الشّعب مصدر السلطات.
فما كان من النظام – وبمساندةٍ وتدخّلٍ من السعوديّة وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، ودعمٍ وغطاءٍ من أمريكا وبريطانيا – إلا أن تصدّي لمطالب الشّعب بالقوّة العسكريّة والقمع الأمني من جهة، وممارسة أساليب التضليل والتشويه للثورة من جهة أخرى، باتهامها تارةً بالتبعيّة للأجنبي، وأخرى بالطائفيّة، وثالثة بالعنفيّة.. .
والنقطة التي تهمّنا في سياق بحثنا هنا هي الطائفيّة، فقد لعب نظام الحكم في البحرين بهذه الورقة، وسعى لتوتير الوضع الطائفي من أجل استمالة المكوّن السنّي والاتكاء عليه في مواجهة التحرّك الجماهيري، والمطالب الشعبيّة الوطنيّة، وقد نجح – مع الأسف – إلى حدّ كبير، بسبب البيئة القابلة التي هيّئها استقبال بعض علماء الدين السنّة لهذه الفكرة وترويجها بين أبناء الطائفة، لأجل بعض المصالح الدنيويّة الضيّقة. وكم يسيء هؤلاء العلماء للدين والمذهب ولسمعة علماء الدين، بميلهم لأنظمة طائفيّة جائرة مستبدّة في مقابل إرادة شعوبهم؟!.
فبين عشيّة وضحاها تحوّل ذلك الشّعب المتآلف والمتعايش في صفاء ومحبّة لسنين طويلة، إلى شعب منقسم على نفسه، يتوجّس من بعضه البعض. ولولا وعي المعارضة ووضوح خطابها السياسي، وسموّ المرجعيّات الدينيّة ورشد خطابها الديني، لدخلت البحرين في صراع طائفي مرير.
وفي برنامج طائفيّ خطير يعمّق الشرخ الطائفي، ويضع أبناء الشّعب في مواجهة بعضهم البعض، يُتداول هذه الأيام أنّ السلطة في البحرين بصدد تنظيم مليشيات مدنيّة لملاحقة المعارضين المتظاهرين ضدّ السلطة والقبض عليهم وتسليمهم لقوات الأمن، بحجّة المساعدة على حفظ الأمن.
وعلى كلّ حال؛ فقد أضحت الفتنة الطائفيّة سلاح أعداء الأمّة من أجل إضعافها، وسلاح الأنظمة الحاكمة من أجل منع أيّ إصلاح أو تغيير سياسي.
وفي ضوء ذلك يبرز الدور الخطير لعلماء الأمّة في مواجهة كلا المخطّطين الخارجي والداخلي، أمّا الخارجي؛ فمن خلال التركيز على المشتركات الإسلاميّة التي تجمع الأمّة وتوحّدها، وتغليبها على الانتماءات المذهبيّة، والعمل على نشر ثقافة الوحدة والتقارب بين المذاهب، والأخوّة والتعايش بين المسلمين، وكذلك لا بدّ من الوقوف عند قضايا الأمّة المركزيّة؛ كقضيّة فلسطين، والدفاع عن المقدّسات الإسلاميّة، وحرمة دم المسلم وعرضه وماله…، وإعطائها محوريّة في تحديد اتجاهات حركة الأمّة، ومحكّاً لتمييز المخلصين للأمّة وقضاياها من المفرّطين والخائنين لها.
ومن الضروري في هذا المجال الاستفادة من الموروث الثقافي الكبير الذي يملأ المصادر الإسلاميّة، واستحضارُه في الخطاب الديني، والترويج له ونشره بين عموم المسلمين، فبالنسبة للقرآن الكريم فإنّنا نجد الكثير من الآيات الشريفة التي تحذّر من الفتنة الطائفيّة أشدّ التحذير، وتعتبرها السبب المباشر في تدمير كيان الأمّة وتشتيت طاقاتها وتضييع إمكاناتها، قال تعالى: {..ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..}الأنفال/46، وقال سبحانه: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) }آل عمران، ومن جهة أخرى تؤكّد الآيات على ضرورة الحفاظ على وحدة الأمّة وعدم تفريقها، وتكريس مبدأ الأخوّة بين المؤمنين، قال تعالى: { وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}الأنبياء/92، وقال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا..}آل عمران/103، وقال عزّ اسمه: {إنّما المؤمنون إخوة..}الحجرات/10.
وأمّا الأحاديث الشريفة، فهناك الكثير المفيد في هذا المجال، نقتصر على التالي: عن رسول الله (ص): ” المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه.. “، وعنه (ص): ” ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم.. “، وعن الإمام الصادق عليه السلام: ” المسلم أخو المسلم، وهو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه “، وعن رسول الله (ص): من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلّى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك مسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم “، وفي رواية أخرى مشابهة، عنه (ص): ” من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمّته “، وعن أنس قال، قال رسول الله (ص): ” أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم “، وعن الإمام الصادق عليه السلم: ” الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى جماعة الناس “، وعن الإمام الباقر عليه السلام في صحيح حمران بن أعين من جملة حديث: ” والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلّها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر وأضيفوا إلى الإيمان “.
وعلى المستوى الداخلي؛ لا بدّ من مساندة مطالب الشعوب وحقّها في تقرير المصير، واختيار النظام السياسي الذي يحكمها، والتأصيل لثقافة التقوى والعدل والإنصاف، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومناصرة المظلومين ومخاصمة الظالمين، يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيّةٍ له لابنيه الإمامين الحسن والحسين وجميع أهله ومن بلغه كتابه: (أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً).
ففي ضوء الترويج لهذه الثقافة الدينيّة والسياسيّة الراقية، وتقديم النماذج العلمائيّة الواعية الملتزمة عمليّاً بهذه الثقافة، وتنظيم البرامج العمليّة التي ترسّخ هذه الثقافة وتحرّكها في واقع الأمّة، وتنزلها من أفق الثقافة النخبويّة إلى واقع الممارسة والسلوك العام، نستطيع مواجهة المشروع المزدوج للفتنة الطائفيّة، أو لا أقل التقليل من آثاره المدمّرة.
وأرى من الضروري هنا التأكيد كذلك على دور الثقافة الحقوقيّة الإنسانيّة الراقية، والفكر السياسي القائم على أساس إرادة الشّعوب وكونها مصدر السلطات، في بناء أسس الوحدة والتفاهم والتعايش بين جميع الشعوب على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة والمذهبيّة، والنهوض بالأمّة من سباتها وتخلّفها.
وهنا قد تثار ثنائيّة الدين والمواطنة، أو قل المبادئ الدينيّة والقيم الإنسانيّة، وأيّهما الأقدر عمليّاً على توحيد المجتمعات والنهوض بها؟!، فالبعض يصرّ على ضرورة حضور الإسلام في فكر الأمّة وواقعها، وأنّه الأطروحة الوحيدة القادرة على إيقاظ الأمّة والنهوض بها، وإسعادها دنياً وآخرة. وآخر يرى أنّ الدّين بما يتضمّنه من قناعات مختلفة تمثّل مقدّساً عند المقتنعين بها، يصعب طرحه كقاعدة مشتركة لتوحيد المجتمعات والنهوض بها، ولا مناص من اعتماد القيم الإنسانيّة المشتركة أساساً وقاعدة للتعايش المشترك، وإدارة المجتمعات والنهوض بها.
ومن أجل حلحلة هذه الإشكاليّة وتجليتها بصورة واضحة نعرض لها عبر النقاط التالية:
1- لا شكّ أنّ هناك قيماً إنسانية عقلائيّة مشتركة تصلح أن تكون قاعدة للتعايش بين جميع البشر، وإدارة حركتهم الاجتماعية، وهي في نفس الوقت لا تتنافى مع مبادئ وقيم الإسلام، كالعدالة الاجتماعية، والمساواة في الإنسانيّة، ورعاية الحقوق الأساسيّة للإنسان،… أو لا أقلّ يقبل بها كضرورة لا كخيار، كمبدأ الشعب مصدر السلطات، وفكرة الديمقراطيّة السياسيّة.
2- الموقف من الإسلام وحركته في الحياة يمكن أن يقارب من جهتين وعلى مستويين؛ مستوى الخيار، ومستوى الضرورة.
فعلى مستوى الخيار؛ نقول: لا شكّ أنّ الإسلام هو الدين والمنهج الذي اختاره الله تعالى للبشريّة، ولا يقبل من أحد اختيار غيره، قال تعالى: { إنّ الدين عند الله الإسلام.. }آل عمران/19، وقال سبحانه: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}آل عمران/85.
نعم، هذا هو الموقف على مستوى الخيار، ولكن ينبغي أن يكون واضحاً أنّ الإسلام الذي يمثّل الخيار هو ذلك المشروع المتكامل القادر على علاج مختلف جوانب حياة الإنسان؛ السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة، الماديّة والروحيّة..، المنهج الذي ينسجم فيه البعد العلمي النظري مع العملي التطبيقي، الذي يتناغم فيه مبدأ التوحيد ووحدة الأمّة، المنهج الذي يتجسّد فيه التوحيد كعنوان للبعد النظري في الإسلام، وتتحرّك فيه الولاية كعنوان للبعد العملي التطبيقي فيه.
هذا المشروع، وهذا المنهج، وهذا الإسلام، ليس إلا الإسلام المتكامل الذي يمثّل الحقّ في جميع منطلقاته، والعدل في كلّ ممارساته، الإسلام الواحد الشامل بلا مذاهب أو طوائف. وهذا الإسلام ليس موجوداً اليوم كما هو واضح.
أمّا على مستوى الضرورة؛ فنقول: هناك عدد من القضايا التي فرضت نفسها على مستوى الواقع، وأصبحت ضرورات حياتيّة لا يمكن تجاوزها، وحينئذٍ لا يجد الإسلام بدّاً من التعاطي الإيجابي معها، بشرط أن لا تتنافى أو تتصادم مع ثوابت الإسلام. وهنا تبرز الحاجة للتعرّف على الإسلام فيما هو الثابت والمتغيّر فيه، وفيما هي العناوين الثانويّة التي تصلح أن تكون أساساً ومدركاً للتعاطي الإيجابي مع هذه الضرورات في نظر الإسلام.
3- عدم وجود الإسلام الكامل الشامل الواحد الذي يصلح أن يكون المنهج الفاعل والمحرّك للحياة في مختلف مساحاتها، لا يعني إلغاء تأثيراته مطلقاً، وتعطيل دوره الإصلاحي سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، فللإسلام أفكاره الدقيقة، وبرامجه اللطيفة، في إصلاح الفرد والمجتمع، ومساهماته المؤثّرة في توجيه مسيرة الإنسان نحو الاستقرار والسلام، والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة، فالإسلام يعطي معناً رفيعاً للحياة، ويعطي للإنسانية شخصيّة وهويّة واضحة، تتنامى فيها معاني الخير والصلاح، وتتضاءل فيها معاني الشرّ والفساد. فلا غنى للإنسانيّة عن الإسلام كموجّه ومربّي ومصلح، وإن لم يكن الحاكم وصاحب السلطة في المجتمع.
4- الإسلام يمتلك عناصر وحدة وقوّة كثيرة – خصوصاً في المساحة العمليّة – لا بدّ من إبرازها والترويج لها وتجسيدها عملياً على مستوى الواقع، وقد أشارت بعض النصوص المتقدّمة إلى ذلك. كما أنّه يتقوّم بعقيدة تلامس العقل والقلب، وتمثّل الحقّ والحقيقة التي لا تقبل التعدّد {..فماذا بعد الحقّ إلا الضلال.. }يونس/32، كما تقترن به قداسات لا تقبل الانقسام على اثنين، فلا غرو أنّ ذلك يسبّب اختلافاً وتقاطعاً بين المنتمين إليه بحسب اختلافهم وتفاوتهم في الأفهام والقناعات، بل قد يتسبّب ذلك بتكوين قناعات متناقضة ومتضاربة، فلا بدّ من تفهّم ذلك والقبول به وقصره على مستوى الفكر والقناعة، وعدم تحويله إلى نزاعات وصراعات على مستوى الخارج، وبذلك فقط نستطيع أن نقدّم الإسلام كرسالة للرحمة والسلام والتعايش بين البشر. وهذا الدمج والتوفيق بين عناصر الوحدة ومبرّرات الاختلاف، والخروج بصيغة واضحة لمشروع الوحدة الإسلاميّة، لا تضيّع عناصر الوحدة، ولا تصادر المبرّرات الواقعيّة للاختلاف، هو من أهم مسؤوليات العلماء الواعين الذين يحملون همّ الوحدة ونجاح مشروعها.
5- لا شكّ أنّ طرح مفهوم الأمّة الإسلاميّة الواحدة، والتأصيل له عبر التركيز على الثقافة الإسلاميّة الوحدويّة، وتقديم معالم واضحة لهذه الحقيقة القرآنية، كفيل بخلق أجواء مناسبة للتقارب والوحدة بين المسلمين في كيان معنوي واحد.
وقد أعطى القرآن الكريم أهميّة كبيرة لهذا المفهوم وهذا الكيان وأسس له من خلال عدّة من الآيات؛ قال تعالى: {إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}الأنبياء/92، وفي آية أخرى: {وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون}المؤمنون/52، ويظهر من هاتين الآيتين أنّ هناك علاقة وطيدة بين مفهوم وحقيقة الأمّة الواحدة من جهة، والإيمان بربوبيّته والعبادة له تعالى وتقواه سبحانه من جهة ثانية، وبذلك تقدّم الآيتان معلمين مهمّين من معالم الأمّة الإسلاميّة الواحدة؛ وهما الإيمان بالله ربّاً، والعبادة لله تعالى وتقواه سبحانه.
وقال سبحانه: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}، وقال في آية أخرى مشابهة: {وجاهدوا في الله حقّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}الحج/78، وهذه الآية بدورها تقدّم معلماً وميزة أخرى لهذه الأمّة الواحدة الإسلاميّة، وهي الوسطيّة في المنهج، والشهادة على الأمم الأخرى، ومن الواضح أنّه لا شهادة بدون علم وعدالة، فالآية تفترض في الأمّة أن تتوفّر على مستويات متقدّمة من العلم والبصيرة من جهة، والعدالة والنزاهة من جهة أخرى.
وقال عزّ وجلّ في ثلاث آيات متشابهة: {.. ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم}المائدة/48، {ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلنّ عمّا كنتم تعملون}النحل/93، {ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير}الشورى/8. وهذه الآيات تبيّن أنّ الإرادة الإلهيّة شاءت أن تكون الأمّة الواحدة أمراً اختيارياً يمتحن به الناس عموماً والمسلمون خصوصاً، فلهم أن يختاروا الأمّة الواحدة المهتدية المرحومة نهجاً لهم، ويكسبوا ولاية الله ونصره لهم، ولهم أن يختاروا غير ذلك فيكونوا من الضالّين الظالمين الذين يحرمهم الله من ولايته ونصره.
وكيف كان الأمر بالنسبة لتفسير هذه الآيات المباركات والمقصود الحقيقي لها، فإنّها تشير إلى مطلب الأمّة الواحدة، وأنّه مطلب رفيع يحتاج إلى مقدّمات وشرائط شريفة، وأنّه يمثّل الفلاح والنجاح والتقدّم والرفعة.
6- أعتقد أنّ الحَراك الحقوقي والسياسيّ الذي يعمّ العالم العربي والإسلامي، والثورات الشعبيّة التي عاشها ويعيشها العالم العربي، تمثّل فرصة للتقارب بين الشّعوب، والتضامن فيما بينها على مصالحها المشتركة في نشر مبادئ حقوق الإنسان، وفي مقدّمتها حقّه في تقرير مصيره وانتخاب نظامه السياسي، وصون وكرامته وحرّياته المشروعة، ولعلّ ذلك يعتبر كذلك مدخلاً مناسباً للتقارب بين المذاهب الإسلاميّة والتعايش فيما بينها في أطرٍ إنسانيّة وعقلائيّة مشتركة.
ولكن – ومع الأسف الشديد – تدخّلت بعض الأيدي الخبيثة والمعادية لمصالح الشعوب من داخل الأمّة وخارجها، لتفويت هذه الفرصة على الشعوب، ومحاصرة آمالها، وإفشال طموحاتها، وقلب المشهد التحرّري الشعبي الرائع إلى مشاهد من العنف الدموي، والفتنة الطائفيّة، والانفلات الأمني، والإحباط والفشل..، لتكريس الفكرة الرائجة بأنّ معارضة الأنظمة القائمة والتمرّد عليها، ليس وراءه إلا الدمار والفتنة والمشاكل المستمرّة. وكذلك لحماية الكيان الصهيوني، والضغط في اتجاه التطبيع معه.
وهنا يتحتّم على العلماء والمثقّفين والمدافعين عن حقوق الإنسان، أن يكونوا السند القوي للشعوب في الدفاع عن مصالحها، وتحقيق مطالبها، وتقوية معنويّاتها في قدرتها على التغيير، والانتصار على التخلّف، ولا بدّ من الصبر والصمود والمواصلة في هذا الطريق، والتحلّي بالوعي والبصيرة الدينيّة والسياسيّة، وعدم السماح بضياع هذه الفرصة الاستثنائية التي تمرّ بها شعوب المنطقة، وتراجع الوعي الشعبي، والحراك الثوري، الذي يجتاح العالم العربي.
وفي نهاية المقال، أقول: إنّنا وفي الوقت الذي نعيش أمام فرصة استثنائيّة، فإنّنا كذلك أمام تحدّيات خطيرة على أكثر من مستوى، ولا بدّ لنا من مواجهتها بكلّ وعي وحزم، وتجاوزها بما يخدم مصالح الشّعوب والأمّة الإسلاميّة، خصوصاً على مستوى الفتنة الطائفيّة.