الشباب

الحسّ الديني لجيل الشباب

محمد تقي فلسفي
قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: (لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم* ثُم رَدَدْناهٌ أَسْفَلَ سافِلينَ* إلاّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرُ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين/4).
القاعدة التربوية للشاب:
تعتبر معرفة الميول والرغبات الفطرية التي تكمن في ذات الشباب، ومحاولة إرضاء كل منها بشكل معتدل وصحيح، من أهم قواعد التربية لجيل الشباب. والمربي الكفوء هو من يستطيع تحليل التركيبة النفسية الطبيعية للشاب من جميع الجهات، ومعرفة ما يختلج في صدره من رغبات وميول، ومن ثم العمل على إرضاء كل منها بصورة سليمة ومنطقية.

إن تربية كهذه تتوافق ونظام التكوين وتتماشى مع قانون الخلقة، هي من أفضل أنواع التربية وأكثرها تأثيراً واستقراراً، وبفضل هذه التربية يمكننا أن نصنع جيلاً صالحاً وكفؤاً من الشباب، ونوفر لهم أسباب سعادتهم في الحياة.
منشأ انحراف الشاب:
ثمة عاملان رئيسيان يعتبران منشأ معظم انحرافات الشباب التي تؤدي بهم في النهاية إلى التعاسة والشقاء. العامل الأول، هو قمع بعض من ميوله الفطرية وعدم الاهتمام بها. والعامل الثاني، هو تمادي الشباب في إرضاء بعض من ميولهم ورغباتهم.
“يقول الدكتور كارل: ينبغي علينا أن نهتم من الآن فصاعداً بمسألة إحياء التعاليم العامة. فالمدارس والثانويات والكليات لم تستطع أن تبني رجالاً ونساءً يكونون مؤهلين لإدراة دفة الحياة بشكل سليم.
عدم الاهتمام بمبادئ الأخلاق:
“إن سبب فشل التربية والتعليم في عصرنا هذا يعود إلى ندرة الآباء والأمهات الذين يتمتعون بوعي كبير وثقافة عالية، واهتمام المربين بالقضايا الفكرية للشباب دون الاهتمام بقضاياهم الفيزيولوجية ومبادئ الأخلاق. وقد تجلى النقص التربوي لدى الشباب من خريجي المدارس والجامعات بوضوح خلال الأحداث التي شهدتها الأعوام الأخيرة، ونحن نتسائل هنا، ما فائدة العلم والأدب والفن والثقافة والفلسفة لمجتمع يعصف به التشتت والضياع”.
إدراك الحقائق:
“ولكي تبقى حضارتنا ومدنيتنا متواصلة، ينبغي على كل فرد من أفراد مجتمعنا أن يشمر عن ساعده ليواكب الحياة ليس وفقاً للأيديولوجيات بل حسب النظام الطبيعي للأشياء. ومن هنا تأتي أهمية إحلال مبدأ التعليم الشامل والجامع محل التعليم الذي لا يخرج عن إطار الفكر. وبعبارة أخرى نقول: يجب أن نسعى لإحياء وتنشيط كل الأساليب والمناهج والوسائل التربوية الموروثة، لكي تساعدنا في تربية جيل يدرك حقيقة مجتمعه والعالم.
إننا نفتقر اليوم لمربين يعملون في مجال التربية والتعليم الشاملين. لذلك علينا وقبل أي شيء آخر أن نفكر بإيجاد مراكز ومعاهد لإعداد مربين يتعلمون فيها أساليب التربية الصحيحة ومنهاجها.
لأن من واجب المربي الناجح تكريس كل ما تعلمه لتفجير كامل الطاقات الكامنة في نفوس الأفراد من أدب ووقار وصدق وحس جمالي وديني وصور البطولة والشجاعة، وعليه أيضاً أن يكون على اتصال مباشر ودائم بالأطباء النفسيين وأساتذة التربية البدنية والتنمية الفكرية وعلماء الدين الحقيقيين وأولياء أمور التلاميذ، وذلك من أجل العمل بكل ما يستحصل عليه من استشارات وآراء تخوله لأن يجعل من كل طفل كائناً متزناً، عندها فقط تبرز أهمية المربي وتسمو مكانته في المجتمع”.
إحياء كل الرغبات:
يقوم المنهاج التربوي لجيل الشباب في الشريعة الإسلامية على قاعدة إحياء كل الرغبات والميول الفطرية، وهدايتها نحو مسارها الطبيعي. فقد أولى رسول الله (ص) أهمية بالغة لما في نفوس الشباب من رغبات وميول مادية ومعنوية، وحرص في كل توجيهاته ووصاياه ومواعظه على أن يوازن وينسق فيما بينها، ويعطي كلاً منها حقها في بلوغ الإشباع وفق معيار صحيح.
منهاج التربية في الإسلام:
إن الشاب الذي يترعرع في كنف الإسلام، ويربي جسمه وروحه في ظل توجيهات الرسول الأكرم (ص) وتعاليمه، يكون إنساناً حقيقياً يتمتع بكل ما يضمن له سعادته وهناءه في الحياة. فهو يملك ثروة الإيمان والأخلاق، ولا يفكر إلا بالطهر والفضيلة، وله نفس هادئة ومطمئنة بفضل اتكاله على الله سبحانه وتعالى، لا تثنيه شدائد الحياة، ولا تفقده صعابها شخصيته المعنوية، يعمل بجد ونشاط دون تقاعس أو إهمال، ولا يتهرب من المسؤولية، يتمتع بكل ما في الحياة من لذائذ بصورة مشروعة وفق ما تقضيه المصلحة العامة والخاصة، دون أدنى شعور بالكبت والحرمان. وحري بنا أن نقول: إن الشاب الذي يربى على المنهاج التربوي للإسلام، يكون قادراً على إشباع كل رغباته وميوله بشكل سليم، وبلوغ درجة تليق به من الكمال.
وفي هذا المقال سنحاول بحث بعض الأساليب التربوية للرسول الأكرم (ص)، على الصعيدين العلمي والعملي، بهدف إطلاع الشباب على المنهاج التربوي في الإسلام فيما يخص إحياء الميول والرغبات وتعديلها، وإفساح المجال أمامهم للإقتداء بها وصولاً إلى النجاح والسعادة.
تأتي المعرفة والإلهية والواجدان الأخلاقي في إطار الميول والرغبات الفطرية التي تولد مع ولادة كل إنسان، وتضرب بجذورها في أعماق كل الشعوب والمجتمعات.
الاهتمام بمبدأ الفطرة:
والإنسان بما يضمره من رغبات ودوافع فطرية، يرغب في معرفة المزيد عن تلك القدرة الحقيقية، لينحني تعظيماً وإجلالاً لها.
قال تبارك وتعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ الله الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الّدينُ القَيِّمُ)(الروم/30).
حقيقة ثابتة:
“يقول جون. بي. كايزل: كلما مضينا في حياتنا ازددنا حرصاَ على معرفة مبدأ وجود الكون، وازددنا إصراراَ على إدراك حقيقة الخالق وجماله ونعمه وما يربطنا به، وانصراف اهتمامنا من الماديات إلى المعنويات، ومن الذات إلى الكون. لنرى أن مبدأ الحياة متغير، وأن كلاً منا ينتقل كل سبع سنوات من مرحلة إلى مرحلة، أي أنه متغير، وأن الأشجار تجف والزهور تذبل، والأصدقاء والأرقاب والأهل يموتون، والآداب والعادات والتقاليد وما إلى ذلك مما له علاقة بالمجتمعات تنقرض وتزول، إذن، ما هو الثابت الذي لا يموت؟.
لقد سعى الإنسان بفكره كثيراً لأن يعرف المبدأ الثابت والخالد الذي لا يتغير في هذا الكون المليء بالمتغيرات، حتى توصل إلى هذه الحقيقة وهي أن ما هو أزلي وباقٍ في هذا الكون المتغير، هو الخالق أو بتعغبير آخر مسبب الخلقة”.
إلهام إلهي:
إن الإنسان يدرك بفطرته المبادئ الأولية للمساوئ والمحاسن دون حاجته إلى مرب أو معلم، ويميل بطبعه نحو المحاسن مجتنباً المساوئ. وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الميل الفطري الناتج من الهداية التكوينية الإلهية بـ (الإلهام الإلهي).
قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورهَا وتَقْواها) (الشمس/7-8).
الضمير الأخلاقي:
يعتقد علماء النفس بأن قوة الإدراك الموجودة في ذات كل إنسان، والتي يميز بواسطتها بين مبدئي الخير والشر، هي الضمير الأخلاقي.
“يقول جان جاك روسو: انظروا إلى كافة شعوب العالم، وارجعوا إلى تواريخها، ستجدون أن ثمة ما يجمع بين كل تلك الشعوب مهما اختلفت قومياتها وألوانها وأطوارها وعاداتها وتقاليدها، ألا وهي مبادئ العدالة والمساواة والقوانين الأخلاقية ومفاهيم الخير والشر.
دليل الخير والشر:
“ومن هنا يمكننا القول: إن هناك مبدءاً فطرياً في أعماق كل إنسان، هو مبدأ العدالة والتقوى، يحكم من خلاله على أعماله وأعمال الآخرين، ويحدد خيرها وشرها، رغم كل القوانين والعادات والتقاليد، وهذا المبدأ هو ذاك الذي أسميه أنا بـ (الضمير).
الميل إلى الإيمان والأخلاق:
لقد سبق وذكرنا أن الجذور الرئيسية للغرائز والرغبات والأهواء النفسية الكامنة في ذات كل إنسان، تعود إلى مرحلة الطفولة، حيث تبدأ بالنمو بما يتلاءم ونمو جسم الطفل، وتشتد هذه الغرائز قوة مع بلوغ الإنسان، شأنها شأن جذور المعرفة الفطرية والضمير الأخلاقي، فهي كامنة في أعماق الطفل قلما تبرز بروزاً خفيفاً. ولكن بمجرد أن يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ والشباب، وتشتد قواه الجسمية والعقلية، تبدأ هذه الجذور بالتفتح، لتوقظ في نفسه الميل إلى الإيمان والأخلاق.
الدوافع الروحية لدى الشباب:
إن فورة البلوغ تساهم في بروز كافة الميول والرغبات الفطرية والملكات الطبيعية الكامنة في ذات الشاب. فعندما يناهز الشاب فترة البلوغ تتفجر في أعماقه الميول الغريزية، وتصحو في نفسه العوامل المعنوية والأخلاقية.
وكما هو حال الدافع الغريزي الذي يدفع بالشباب إلى إرضاء ميولهم المادية أو النفسية، كذلك الأمر بالنسبة للدوافع الروحية، حيث تدفع بالشباب إلى إرضاء ميولهم المعنوية.
ويعتقد علماء النفس أن فترة البلوغ والشباب هي فترة تفجر الأحاسيس الدينية، وتفتح الميول الإيمانية والأخلاقية.
بحثاً عن الحق:
إن فطرة الشاب تدفعه تلقائياً لمعرفة مبدأ الكون وخالقه، وتدفعه إلى البحث عن الحق وبذل ما بوسعه وصولاً إلى الحقيقة، وبذا يكون قد عمل على إرضاء ميوله الفطرية إلى المعرفة.
كما أن الشاب يميل بطبعه وفطرته إلى الطهر والفضيلة والعدل والإنصاف وأداء الأمانة والوفاء بالوعد والصدق والخير وما إلى ذلك من سجايا إنسانية، ويرغب في أن يبني شخصيته على أساس كل ما هو نابع من الضمير الأخلاقي.
وتتساوى لدى الشاب القدرة على انتخاب الصفات الحميدة والتمسك بها، أو انتخاب الصفات الذميمة والانجراف وراءها، فهو قادر على انتخاب الطريق الملتوي الذي يوصله إلى الانحراف والرذيلة، لكن الدوافع الفطرية الكامنة في أعماقه تشده نحو الطريق السوي الذي يوصله إلى الاستقامة والفضيلة، محذرة إياه من عواقب المعاصي وسوء الخلق.
نداء الحق والحقيقة:
ثمة نداء واحد يهز الشاب من أعماق الضمير، ألا وهو نداء الحق والحقيقة، نداء الطهر والفضيلة، نداء وجد بالفطرة في ضمير الإنسان، وهو ما عرف بالإلهام الإلهي والضمير الأخلاقي.
إن ميل الفتيان الطبيعي نحو الفضائل الأخلاقية يكون شديداً جداً، بحيث إنهم يغتاظون لأدنى ظلم أو سلوك مشين يصدر عن آبائهم وأمهاتهم، ويلومونهم بقوة، ويحتجون على سلوكهم، ويعتبرونهم عاراً على المجتمع.
السجايا الإنسانية:
إن تفكير الفتيان لا ينحصر فقط في صفاتهم الحميدة وسلوكهم الحسن، بل تدفعهم ميولهم الباطنية ورغباتهم الفطرية للتمني أن تتسم شعوب العالم قاطبة بمثل هذه الصفات، ويكون لها نفس هذا السلوك.
إنهم يتألمون من سوء خلق الآخرين، ويتأسفون لانحرافهم، ومرادهم أن تعم الفضائل الأخلاقية كافة البشر، ليسير الجميع نحو الاستقامة والصلاح، وينعموا بالسعادة والهناء.
“يقول موريس دبس أستاذ جامعة ستراسبورغ: تعصف روح الإيمان أو الشجاعة في أعماق الفتيان ما بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من العمر، حيث يتمنون لو أنهم يستطيعون تشكيل العالم من جديد، ليمحوا كل أثر للظلم، ويقيموا العدل مكانه”.
“هناك قيم ما وراء الطبيعة والدين إلى جانب المثل الأخلاقية وقيم ما وراء الطبيعة لدى الشباب. فالطلبة الجامعيون الشباب تراهم يتعلقون بكل ما له صلة في البحث عن حقائق شؤون الحياة.
لقد أطلق أوغست في قانونه الذي تطرق فيه إلى المراحل الثلاث التي يمر بها الإنسان، أطلق على مرحلة البلوغ اسم مرحلة ما وراء الطبيعة. إن غالبية الأشخاص الذين يخوضون في أسرار الكون والخلقة والوجود، يعانون من اضطراب خاص، وهذا ما يمكن اعتباره سبيلاً آخر للوصول إلى ما وراء الطبيعة. ومن الصعب جداً الفصل بين نفوذ فكرة ما وراء الطبيعة والشؤون الدينية في أذهان الشباب، لأن كل القيم الروحية تلتقي عند نقطة واحدة.
البلوغ والحس الديني:
“يبدو أن هناك إجماعاً في الرأي بين علماء النفس حول وجود علاقة بين أزمة البلوغ والوثوب المفاجيء للحس الديني لدى الشاب البالغ.
تنمية الشخصية:
“ففي هذه الفترة، تولد نهضة دينية حتى عند أولئك الذين لم يكونوا في السابق من المتمسكين بأمور الدين، ولن يكونوا في سني الكمال والنضوج من المؤمنين بها. ويعتقد “ستانلي هال” بأنه يمكن لمس آثار هذه النهضة الدينية، أو لنقل الحس الديني في نفسية الفتى حتى سن السادسة عشرة كحدٍ أقصى. ويمكن اعتبار هذا التغير بأنه يندرج في إطار تنامي شخصية الشاب. وهذا الحس يمنح الشاب الذي يتخبط تحت تأثير شتى العوامل، الفرصة لكي يعرف نفسه ويدرك أسبابها ومسبباتها في وجود الله سبحانه وتعالى. فإدراكه لوجود الله تباركت أسماؤه يخفف من معاناته وعذابه، ويجعله يشعر بمكانته في هذه الحياة. ومثل هذا الوثوب المفاجىء لن يحصل عند الأشخاص الذين عاشوا أعمارهم في ظل تربية دينية، ولكن حبهم لله يزداد، وتتغير أحاسيسهم تجاهه- جل وعلا- عما كانت عليه أثناء طفولتهم لاسيما عند الفتيات، حسب قول العالم “پ . بوريه””.
ويقول علماء النفس: إن ثمة علاقة بين أزمة البلوغ والوثوب المفاجىء للحس الديني، لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، حتى الأطفال الذين يترعرعون وسط أسر لا تمت إلى الدين والإيمان بصلة، يبدون في مرحلة البلوغ أهمية أكبر بالشؤون الدينية.
www.balagh.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى